أسامة الأزهري وأطروحة ابن تيمية (الحلقة الثانية)

أسامة الأزهري وأطروحة ابن تيمية
(الحلقة الثانية)
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه، ومن اتّبع هداه،
أما بعد، فقد استمر الأزهري في إثارة الشبهات المتهافتة على هذا العلم من أعلام الأمَّة ظانًّا أنه بهذا يتمكن من تشويه علمه ومنهجه متناسيًا أنه سبقه إلى ذلك أقوام صاروا في التراب، واندثر كلامهم معهم.
قال الأزهري: “بل إن أكثر كتب ابن تيمية كانت قد هجرت، ولم تعد موجودة، ولم يتداولها العلماء، ولم يدرسوها حتى إن الشيخ محمود شكري الآلوسي في الرسائل المتبادلة بينه وبين الشيخ جمال الدين القاسمي يذكر أنه ظلّ يفتش في دور المخطوطات في العالم عن كتاب من كتب ابن تيمية أربعين سنة والكتاب غير موجود؛ لأن الأمَّة في عقلها الجمعي ومن خلال علمائها الكبار لما نظروا في أطروحة بن تيمية وجدوا أنها أطروحة قلقة ليست بالأطروحة العلمية المستقرة خرجت أجيال من علماء الأمة على أن هذه الأطروحة تجتنب لا ينظر فيها.
فمن الذي سعى إلى إخراج هذه الأطروحة، وإعادة طبعها وترويجها وجعلها هي الأصل العلمي، وتجاهل انتقاد العلماء على كثير من البحوث الموجودة فيها؟!”.
قلت: ادعاء أسامة الأزهري أن محمود شكري الآلوسي ظلَّ أربعين عامًا يفتِّش عن أيِّ كتاب من كتب ابن تيمية فلم يجد شيئًا منها: أسطورة خيالية وكذبة مفضوحة؛ حيث صوَّر كتب شيخ الإسلام كأنها غير معروفة ومجهولة، وصوَّر الآلوسي في صورة الزاهد في كتب شيخ الإسلام، وعدم الراغب فيها.
وإن كان استشهاده بهذه الأسطورة حجة عليه؛ حيث إن حرص الآلوسي على الاستمرار في البحث عن إحدى آثار شيخ الإسلام طيلة أربعين سنة؛ يدل على مدى اهتمامه بآثاره –رحمه الله-.
ودليل كذب هذه الأسطورة في المصدر الذي عزى إليه أسامة الأزهري، ألا وهو: كتاب “الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي” (طبعة دار البشائر الإسلامية، جمع وتحقيق: محمد ناصر العجمي).
وهذه نصوص من هذه الرسائل تظهر للقارئ بجلاء كذب هذه الأسطورة:
جاء في كتاب “الرسائل المتبادلة بين جمال الدين القاسمي ومحمود شكري الآلوسي” في الرسالة (2) (ص47-51):
“أما آثار الشيخين وغيرهما من السلفيين، فكما أمرتم أعجز الناس عن القيام بحقِّها جماعة الأحمديين –يقصد الحنابلة نسبة إلى الإمام أحمد بن حنبل-، حتى أن على كثرة مخابرتي أهل نجد، لم أنل بغيتي منهم على كثرة الوعد، مع أني استجلبت بعض الرسائل من بلاد الأجانب بواسطة بعض الأصحاب من المستشرقين حتى أنهم إذا أعوزهم الكتاب نقلوا الكتاب بالآلة الشمسية، وقد كابدت كل صعوبة في الكتب التي يسر الله نشرها في مصر والبلاد الهندية.
وقد أمرتم أن نسعى باستكتاب (الفتاوى) لفرج الله، فالفتاوى التي تعني بها قد أرسلتها له منذ مدة وهي المشتملة على كثير مما في (الرسائل الكبرى) ولكن المقصود والأهم (الفتاوى المصرية)، وعلى ما سمعت أن جزءًا منها في خزانة الملك الظاهر وهو الجزء السادس، وجزء واحد لا يفيدنا”.
وجاء في الرسالة (3) (ص55-57): “أمرتم بالبحث عن ((شرح العمدة)) وفي الخزانة الظاهرية منه جزء واحد صغير وتتمَّة غير موجودة.
وقد أتاح المولى من الإخوان من يراجع أجزاء (الكواكب)، ويستخرج منها بعض مؤلفات شيخ الإسلام، فننسخ من ((نقد التأسيس في الرد على الرازي))، ويبحث عن تتمته، ونسخ كتاب ((التوسل)) أيضًا، وقد بلغ خمسة عشر كراسًا، ونسخ غيرها إلا أن الأمر بحاجة إلى همة الأحمديين وغيره من المثرين يُقيمون الوكلاء عنهم، ولا يبالون فيما يصرف للتصحيح والنسخ، وإلا فالسير بطيء جدًّا، وجلي أن طبع كتاب خيرٌ من ألف داع يتفرقون في الأقطار؛ لأن الكتاب يأخذه الموافق والمخالف، والداعي قد يجد من العوائق ما لا يظفره بأمنيته، وكان بعض الحكماء يقول: مقالة في جريدة خير من ألف درس للعامة، فمن لنا بمن يثير همتهم ويوقظهم من سباتهم؟ ولا أحد ينسى ما لمولانا ـ حرسه الله ـ من المقام المحمود في هذا المجال –يعني نشر كتب ابن تيمية-، وسعيه الليل والنهار محتسبًا وجه المتعال، وسيخلِّد له التاريخ لسان صدق يرتاح له أنصار الفضل، ورجال الحق.
أما كتاب ((بيان الدليل في إبطال التحليل)) فقد أخبرني الشيخ عبد الله الروَّاف -من فضلاء القصيم-، نزيل دمشق الآن، ويتردد إليَّ أن عنده في بلده نسخة منه كاملة، وقد وعد أنه إذا عاد يحضر الكتاب.
ونحن في حاجة الآن إلى ((شرح الأصفهانية)) لشيخ الإسلام، فقد أطنب في مدحها ابن القيم، ويرى من وقف على ما ينقل عنها أنَّا في افتقار إليها لغلب الأدلة المعقولة فيها، فعسى مولانا أن يبحث عنها ويأمر بتمثيلها للطبع، لا زال رُكنًا للإسلام وكوكبًا للأعلام. (29 ذي الحجة 1326) (العبد الفقير: جمال الدين القاسمي).
وجاء في الرسالة (4) (ص60-62): “وما أمرتم به من القيام باستنهاض همم الأحمديين، وحثهم على نشر آثار أسلافهم السلفيين، فالعبد لم يزل قائمًا على ذلك السَّاق متحملاً ما يكابده في هذا الباب من المشاق، وقد كتبت بذلك مرارًا إلى الشيخ مقبل الذكير من تجار البحرين، والشيخ قاسم الثاني أمير قطر، وإلى التلمساني في جدة، ومحمد حسين نصيف([1]) فيها أيضًا، وإلى غير هؤلاء من محبي السلف في الهند والسند وسائر الأقطار، وكلهم وعدوا بما يسر إن شاء الله تعالى.
أما ((شرح الأصفهانية)) فالصغير منه نسخه في إحدى كتب بغداد، وهو نحو كتاب ((اقتضاء الصراط المستقيم)) حجمًا، وأما ((الشرح الكبير)) فلم أقف عليه ولعل نسخته في نجد، وسأتحرى عليه إن شاء الله تعالى.
وكتاب التوسل وغيره من آثار الشيخ، كتبت لصاحبنا عبداللطيف بن المرحوم الحاج عبدالحميد عن بذل ما يلزم من الأجرة للاستكتاب والتصحيح، حسبما يأمر المولى، وكتاب “بيان الدليل على إبطال التحليل”، قد عزم بعض أهل الخير الوطنيين على طبعه في إحدى مطابع بغداد بعد العثور على نواقصه فَقَرَّ عينًا بذلك، ولي أمل عظيم في نشر كتب الشيخ جميعها عن قريب، والله الموفِّق لكل خير، هذا وأرجوا تبليغ سلامي للشيخ عبد الله الرَّواف، وإلى كافة من تحبُّون من الأخيار، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته”. (25 صفر سنة 1327) (العبد المخلص في وده محمود شكري).
وجاء في الرسالة (5) (ص63-66): “فيا أيها الأستاذ إني قبل هذا عرضت عليكم أني أمتثالاً للأمر حرَّرت عدة رسائل إلى أقطار شاسعة، وبلاد بعيدة طلبت فيها ممن أعرف غيرتهم على الدين أن يقوموا على ساق الهمة؛ لنشر الآثار السلفية والكتب الأحمدية، ولم يخب سعينا ولله الحمد، فقد ورد في هذه الأيام من الحاج مقبل الذكير أنه كتب لشريكه في جدة أن يرسل عدة كتب من مؤلفات شيخ الإسلام إلى مصر ليباشروا طبعها، وفي الأسبوع الماضي وردني أيضا من الأخ في الله حسين نصيف كتاب من جدة مطول يقول فيه: “وقبل تاريخه وصل إليَّ مكتوب من الحاج مقبل الذكير عرفنا به أننا نرسل إلى مصر لفرج الله الكردي ((الرد على ابن سبعين))، و((التسعينية في الرد على الكلام النفسي))، وغيرها من الكتب إن شاء الله تعالى يصير طبعها مع كتاب ((العرش)) الذي حرَّضنا على طبعه، وجملة كتب من هذا القبيل المقصود طبعها، إلا أن مطلوبنا نسخة من كتاب ((العرش)) إن وجدت ونسخة من ((السبعينية))، ونسخة من ((التسعينية)) ونسخة من ((شرح منازل السائرين)) المسمى ((مدارج السالكين)) إن وجد ذلك عند حضرتكم فأرسلوا الجميع إلينا مباشرة مع أول وابور متوجه لطرفنا، ودمتم….)) إلخ؛ حيث إن الكتب المذكورة ليس لها أثر في بغداد إلا ((مدارج السالكين)) وكانت عندنا منه نسخ قديمة الخط أرسلناها إلى فرج الله الكردي منذ سنتين طمعًا في نشرها وطبعها، وأظن أن الكتاب بقي عنده إلى اليوم، وقد كتبت لمحمد حسين بذلك ولفرج الله أيضًا أن يخبره إن بقى الكتاب عنده.
وكتبت لمحمد حسين أيضًا عنكم وعرفته بحضرتكم العليَّة، وأن يكاتبكم بعد ذلك بكل كليَّةٍ وجزئية، وذكرت له أني سألته عما طلبه من الكتب وغيرها من الكتب المهمة، فاسترحم أن تكتبوا له كتابًا عن التماسي وتذكروا له ما عندكم من كتب الشيخين التي طلبها وغيرها من الكتب المهمة التي وقفتم علها مختصرة كانت أو مطولة وبادروا إلى ذلك، فإن المسافة بين دمشق وجدة غير بعيدة، وعنوان كتابه هكذا: إلى وكيل الإمارة الجليلة في جدة حضرة الفاضل محمد حسين نصيف، وهذا الرجل من كبار أهل الثروة، ومن أعظم الناس محبة للسلف الصالح، ونشر آثارهم، ولا سيما لشيخ الإسلام -قدس الله تعالى روحه وكتبه- حتى أنه قبل هذا حجَّ عنه حجة، وهو من المحبين لنا على محبتهم فلا تقطعوا عنه مخابرتكم على الدوام.
(تحريراً في 8 ربيع الأول سنة 1327) (الفقير إلى الله: محمود شكري الحسيني الألوسي عُفي عنه)
وجاء في الرسالة (6) (ص67-68):
“ولا أقدر أن أعبِّر عن السرور الذي داخلني من اهتمامكم بنشر آثار شيخ الإسلام، فجزاكم الله عن هذا السعي خير الجزاء.
وقد كنت سألت سيادتكم عن ((شرح العقيد الأصفهانية))، وبعد مراسلتكم بذلك ظفرنا بشرح لها ضمن ((الكواكب))، فنسخناه عل حساب الشيخ فرَّج الله، وأرسلناه له، وهو بنحو أربع كراريس، والآن ننسخ على حسابه ((قاعدة لشيخ الإسلام في اختلاف المذاهب))، وبعد الفراغ منها يعود الكاتب إلى نسخ بقية الجزء من ((الفتاوى))، وأما كتاب ((التوسل)) فقد نسخه الشيخ عبد الله الرَّواف وصححه وبعد مدة يذهب إلى مصر، وقد أوصيته أن يعطيه للشيخ فرج الله ليطبعه، فأرجوا من سيادتكم أن تكتبوا له باستلامه من الشيخ عبدالله هذا الكتاب ومباشرته بطبعه والعناية بتصحيحه، وأن تخبرني بتعريفه عن ذلك، لا زلتم ملجأً للمُستفيدين، ومنهلاً للطالبين، في 17 ربيع الأول سنة 1327 (العبد الفقير: جمال الدين القاسمي).
وجاء في الرسالة (7) (ص69-71): “فإني تشرفت بكتابكم الكريم، وسررت باهتمامكم غاية السرور، وعَرَّفت الفاضل محمد حسين نصيف بما أمرتم به، وشوَّقته لإحياء آثار شيخ الإسلام التي عندنا في خزانة الكتب العمومية، والسعي إلى طبعها ولو عندنا، وأنّ تنوع أمكنة الطبع من أعظم الوسائط لسرعة النشر، فجزاكم المولى عن هذا السَّعي أحسن الجزاء”. (26 ربيع الأول سنة 1327) (الفقير جمال الدين القاسمي).
وجاء في الرسالة (24) (ص162): “ثم سيدي ظفرت في هذه الأيام بمجموعة في خزانة أصدقائنا بني الشطِّي أعارنيها جمال أفندي الشطِّي من الأدباء المتنورين الملازمين بعض دروسنا ومجامعنا، وجدتها محتوية على ((قاعدة في أن جنس فعل المأمور به أعظم من ترك المنهي عنه )) في نحو ثلاث كراريس لشيخ الإسلام، وعلى ((مختصر رد الشيخ على البكري )) في نحو عشر كراريس، مأخوذ عن تاريخ ابن كثير، لأن عنوانه: قال ابن كثير في ((تاريخه)) ثم ذكر ترجمة البكري والرد عليه، وعلى فتوى للشيخ في ((مسألة الذبائح))، وعلى ((فصل في طواف الحائض، والحنب والمحدث))، للشيخ منقول على خط ابن القيم في ستة كراريس، رأيت أهم ذلك رده رحمه الله على البكري، فهل يوجد الأصل بتمامه عندكم أو عند أحد؟ فإن كان فأرى من الضروري أن يطبع على حدة، وأن يشوَّق لذلك من ترون من السلفيين، وأرى إذا طُبِع أن يطبع بقطع النصف بحرف رقيق ليخف حمله ويستصحب”. (12 شوال 1329) (جمال الدين القاسمي).
وجاء في الرسالة (26) (ص74-75): “وبالجملة فالحالة عندنا عجيبة جدًّا، والعتب كله على عدم مؤازرة مثري السلفيين لأهل مشربهم والمستعان بالله، كتب إليَّ الشيخ فرج الله أن أرسل ما لدينا من ((تتمة شرح العقيدة الأصفهانية)) المنسوخة من الخزانة ليقابلها مع ما تفضلتم بإرساله منها وقريبًا نرسلها له إن شاء الله، حضرني جواب من الشيخ مقبل الذكير وفيه شكوى مما ناله في هذه الأعوام، ونال الشيخ قاسم الثاني أمير قطر، ووعد أنه إذا آنس يسرًا وحسن حالاً أن يخابرنا، ثم ذكر لي أن أعلمه إجمالاً بما يكلف طبع تلك الآثار المنوعة، فقلت له في الجواب: أن هذا لا يمكن تقديره، بل يطبع بمقدار ما يرسل إن كثيراً أو قليلاً؛ لأن لدينا آثار الشيخ صغيرًا وكبيرًا، وأشرت عليه أن يرسل إذا آنس سعة مقدار مائة جنيه، وتكون المعاملة على أصولها من أخذ الوصولات من النساخ باستيفاء أجورهم، وكذلك من مديري المطبعة، وكل ما يكلف يحفظ في دفتر مخصوص فعسى أن يتفضل المولى عليه، يهمني الآن طبع كتاب ((الردّ على البكري))، وهو وإن كان أورد ابن كثير جلّه ولم يورده بتمامه إلا أن الفرح بطبع ما وجد حتى نظفر بأصله لا يعادله شيء، والانتفاع بما فيه في هذه المدة لا يقدر قدرها، ولم أزل بانتظار من يستجيب لمولانا ممن كاتبه، وأرجو النيابة عني في تعزية أسرة فقيدنا روَّح الله روحه ورضي عنه ، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
(في 29 ذي الحجة سنة 1329) (جمال الدين القاسمي).
وجاء في الرسالة (27) (ص182): “و((ردُّ البكري)) كما أنكم مهتمون بنشره كذلك الفقير، وقد كاتبت بعض علماء نجد على استنساخه فوعدوا ولم يفوا، حتى أن حفيد الشيخ محمد بن عبدالوهاب شيخ النجديين كتب لي قبل أشهر كتابًا، ذكر لي أن عندهم من كتب الشيخين ما ليس عند أحد، وقال: أي كتاب تريده منها فنحن نرسله إليك مع كمال المسرة”.
وجاء في الرسالة (39) (228-229): “كان صديقنا الشيخلي زارنا، وأطلعني على ما أمرتم به، وأراني عدة كراريس مما نسخ من كتاب شيخ الإسلام -يعني به نقص أساس التقديس-، فوعدته بأنه متى تمَّ مقدار جزء منه و جلدناه، أُرسل مع بعض إخواني إلى المكتبة وأقابل موضعًا منه غير معين، فإن رأيت الصواب يغلب عليه فيها، وإلا استأجرنا من يقابله كله؛ لأنه بدون المقابلة لا فائد منه أصلا”.
وكتب القاسمي رسالة لنصيف في 26 ربيع الأول سنة 1327 هـ قال فيها: حضرة الأخ الفاضل، والمحب الكامل، زاده المولى توفيقا، ومشيًا على منهج السلف وتحقيقًا، ونفعنا بمحبته، وجمعنا في مستقر رحمته، آمين.
أما بعد: فيا أيها الأخ في الله، والمحب لوجه الله، حضرني اليوم تحرير من السيد العلامة النحرير، حضرة مولانا السيد شكري أفندي الألوسي، أيده الله ،يذكر لي أن جنابكم حررتم له كتابًا تطلبون فيه من حضرته بعض كتب شيخ الإسلام تقي الدين -رضي الله عنه وأرضاه-، وجعل في أعلى فرادس الجنان مأواه، وجازاه عن الإسلام خير ما جازى من ارتضاه، آمين، وذلك: ((الرد على ابن سبعين))، و((التسعينية))….إلخ، وأنه عرف حضرتكم في هذا الشأن، ولقد أدخل السيد شكري أفندي عليّ السرور الزائد، بما نوّه لي عن فضلكم، وصلاحكم، وكمالكم، وغيرتكم على نشر آثار السلف، لا سيما آثار شيخ الإسلام -رضي الله عنه-، فإن هذا في غاية أمنيتنا، ونهاية رغبتنا، وقد حمدت الله وشكرته على أن قيض لهذ الشأن أمثالكم، ومن مدة كنت كاتبت السيد شكري أفندي وعرفته بأن محبي السلف، من الواجب عليهم الآن أن ينهضوا لإحياء آثارهم ونشرها بواسطة الطبع، وأن يجاروا غيرهم من الذين ينشرون الكتب التي لا تزيد إلا خبالاً وضعفًا في العقيدة، فإن أكثر المطابع ترغب الآن في التجارة، ولا يهمها إلا الكسب الدنيوي، وإن فاتهم الربح الأخروي، مع أن في الأحمديين والسلفيين بقية عظمى من أهل الخير والصلاح، فيا سيدي البدار البدار، والسباق السباق، فما لنا إلا أمثال همتكم، أحياكم المولى الحياة الطيبة، وزادكم نفعا وانتفاعًا، أخي ! تعلمون أن شيخ الإسلام توفي بدمشق، وأن رسائله معظمهما، والحمد لله في دمشق، وإن فقد منها شيء، أو طار من الشام إلى غيرها، إلاَّ أن في المكتبة العمومية عندنا من رسائله وقواعده في كتاب ((الكواكب)) الذي جمعه الشيخ ((ابن عروة)) وكتب فيه جملة وافرة من تآليف شيخ الإسلام، وبها ما يكفي ويشفي، إلى أن قال: ثم أرى أن نسعى بطبع شيء من رسائله عندنا في الشام؛ لأن المطابع الآن كثرت فيها، والحمد لله، والقصد الإسراع والسباق إلى هذه الخيرات، وإن يكن بعض المطابع في مصر تعتمدون عليها في ذلك، ولكن القصد إشغال عدة مطابع لنرى تلك الدرر انتشرت بسرعة، ولا يخفى فضلكم أن أعظم واسطة لنشر المذهب السلفي هو طبع كتبه، وأن كتابًا واحدًا تتناوله الأيدي على طبقاتها خير من مئة داع وخطيب؛ لأن الكتاب يبقى أثره، ويأخذه الموافق والمخالف، واعرف أن كثيراً من الجامدين اهتدوا بواسطة ما طبعناه ونشرناه، اهتداءً ما كان يظن، والحمد لله على ذلك.
(في 26 ربيع الأول سنة 1327) (الفقير إليه تعالى: جمال الدين القاسمي).
وانظر: كتاب ((جمال الدين القاسمي وعصره )) لظافر القاسمي (585-589).
وقال الآلوسي كما في “علامة الكويت الشيخ عبد الله الخلف الدحيان” (128): “يذكر –أي: التويجري- أن كتاب “نقض الأساس” فيه نقصان كثير، فأجبته أن الأجرة بالغة ما بلغت تصلكم بواسطة أخينا عبد الله من غير تقصير، فما أرى هذا النقصان إلا فروة سبع، كما في الأمثال العامية”.اهـ
قلت: هذه نصوص وافرة في بيان كذب ادعاء أسامة الأزهري على آثار شيخ الإسلام، وتصويره إياها أنها مجهولة غير مرغوب فيها، وأن مكتبات المخطوطات قد خلت منها، كأن الأمَّة –على دعواه- تخلَّصت من هذه الآثار؛ لأنها رفضتها.
قال محمد ناصر العجمي –جامع الرسائل- (ص11) في سرده لمضمون الرسائل:
“السؤال بإلحاح عن كتب ورسائل شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية -رحمه الله تعالى- وتتبع مخطوطاته، والسعي الحثيث في محاولة نشرها ونسخها والاعتناء بها، بل أن بداية المراسلات بينهما كانت مبنية على ذلك، وقد كشفت هذه الرسائل أن القاسمي والآلوسي كان لهما دور فعّال في نشر عدد ليس بالقليل من كتب شيخ الإسلام.
يقول القاسمي([2]) في إحدى رسائله مخاطبًا الآلوسي: “ولا أحد ينسى ما لمولانا ـ حرسه الله ـ من المقام المحمود في هذا المجال –يعني نشر كتب ابن تيمية-، وسعيه الليل والنهار محتسبًا وجه المتعال، وسيخلِّد له التاريخ لسان صدق يرتاح له أنصار الفضل، ورجال الحق.
ويقول أيضًا في رسالة أخرى له: “وإنما المهم نسخ آثار شيخ الإسلام التي في الخزانة، وتتبع المهم منها…”.اهـ
قلت: ومن تأمَّل هذه المقاطع من الرسائل، يستنبط منها ما يلي:
الحرص الشديد على نشر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، والتعاون الحثيث على هذا الأمر، بين كلٍّ من: الآلوسي، والقاسمي، والشيخ قاسم الثاني أمير قطر، وعبدالقادر التلمساني –من تجار جدة-، ومحمد حسين نصيف، ومقبل الذكير -من تجار البحرين-.
وفي هذا إجابة على السؤال الذي طرحه الأزهري: “فمن الذي سعى إلى إخراج هذه الأطروحة، وإعادة طبعها وترويجها وجعلها هي الأصل العلمي؟!”.
القاسمي يعبِّر عن سروره البالغ من اهتمام الآلوسي بنشر آثار شيخ الإسلام.
الآلوسي يقول: “ولي أمل عظيم في نشر كتب الشيخ جميعها عن قريب”، فهل يقول هذا مَن ظل أربعين عامًا لا يجد أثرًا لشيخ الإسلام؟!
القاسمي يبين أن طبع كتاب –ومنها كتب ابن تيمية- خيرٌ من ألف داع يتفرقون في الأقطار؛ وهذا يؤكد مدى الإجلال والاعتناء بطبع كتب ابن تيمية.
ذكر القاسمي أن الفرحة إيجاد نسخة “الردّ على البكري”، لا يُقدَّر قدرُها.
قيام القاسمي بتشويق الشيخ الوجيه محمد حسين نصيف لإحياء آثار شيخ الإسلام التي عندهم في خزانة الكتب العمومية، والسعي إلى طبعها.
أن الشيخ الوجيه محمد حسين نصيف من المحبين لنشر آثار السلف الصالح، خاصة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية.
أن المكتبة العمومية في دمشق في زمن القاسمي والآلوسي كان فيها جملة وافرة من رسائل ابن تيمية وقواعده مجموعة في كتاب ((الكواكب)) الذي جمعه الشيخ ((ابن عروة))، وكتب فيه جملة وافرة من تآليف شيخ الإسلام.
بل لقد صنَّف أبو المعالى محمود شكري الآلوسي كتابين هامَّين في الذبِّ عن التوحيد ومعتقد السلف ضد الخرافي الصوفي النبهاني:
الأول: سمّاه: “غاية الأماني في الردّ على النَّبهاني”، يرد فيه على كتاب النَّبهاني: “شواهد الحق في الاستغاثة بسيد الخلق”.
والثاني: سمَّاه: “الآية الكبرى على ضلال النَّبهاني في رائيته الصغرى”.
وفي الكتاب الأول قد دافع محمود شكري الآلوسي دفاعًا حميدًا عن شيخ الإسلام ابن تيمية ضد الطعون الفاجرة الصادرة من النَّبهاني، والتي تشبه طعون الأزهري.
وقد ادعى النّبهاني على شيخ الإسلام دعوى تشبه دعوى الأزهري، حيث ادعى أنه لم يطبع من كتب ابن تيمية لم يطبع منها إلا عشرة كتب –يقلِّل منها-، وكأن الأزهري أخذ شبهته من كلام النّبهاني، فردّ الآلوسي عليه في غاية الأماني (1/161-162) قائلاً:
“أما قوله: “وقد طبعوا إلى الآن عشرة كتب”، ثم عدَّدها مع الطعن والقدح فيها- فيقال له: أخطأت في الحساب، كما قد زغت عن جادة الحق والصواب، بل إن الذي طبع من كتب الشيخين ونحوهما نحو مائة كتاب ما بين مختصر ومفصل، منها ما طبع في مصر، ومنها ما طبع في المطابع الهندية، ومنها ما طبع في مكة شرّفها الله، وكل هذه الكتب كنوز علم ومصابيح هدى والحمد لله، كما أنها شجى لأعداء الدين والمبتدعة الملحدين، وإني أبشرك أيها المبتدع أن جميع كتب شيخ الإسلام وأصحابه ستطبع قريباً، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، حيث يظهر بها زيغ الملحدين، وافتراء السبكي وابن حجر-أي الهيتمي- وأضرابهما من المتبعين لهواهم، الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين”.اهـ
قلت: كأن الآلوسي يرد بكلامه هذا على أسامة الأزهري نفسه !!
واعلم أن الأسرة الآلوسية خرج منها عدد من العلماء، منهم مَن كان ذابًّا عن معتقد ومنهج السلف الصالح محبًا لشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من أئمة السنّة.
ومنهم: العلامة السلفي أبو البركات نعمان خير الدين الآلوسي –رحمه الله –عمُّ محمود شكري الآلوسي-، ومن كتبه الفذَّة التي دافع بها عن ابن تيمية دفاعًا حميدًا كتابه: “جلاء العينين في محاكمة الأحمدين”، وقد بيّن سبب تأليفه للكتاب كما في (ص13-14) من أنه اطَّلع على عبارات في خاتمة الفتاوي الشهيرة بـ((الفتاوى الحديثية)) لشهاب الدين أحمد بن محمد بن علي بن حجر الشافعي الهيتمي: “قد أزرى فيها، وشنَّع بظاهرها وخافيها، على جامع العلوم الربانية، ومحور التصنيفات العديدة، ذي الآراء السديدة، المؤيدة للشريعة الأحمدية، إمام الأمة في عصره، ومجمع علوم الأئمة في دهره، ترجمان القرآن، وآخر مجتهدي الزمان ذي الكرامات الساطعة، والبراهين اللامعة، حجة الأنام، شيخ الإسلام:
تقي الدين أحمد أبي العباس الشهير بابن تيمية الحراني الحنبلي، نفعنا الله تعالى والمسلمين بعلومه وأسكنه في المقام العلي، رماه فيها بثالثة الأثافي؟ وعزا إليه -وحاشاه- كل عيب ضافي، ونسب إليه بعض العقائد المخالفة لأهل السنة، التي لم يكن البعض منها مسطورًا في كتبه، وليس له في البعض الآخر سوء المقاصد، مع أنه قد صرح في سائر تأليفاته بخلاف تلك المرويات وبضد هاتيك المعزوات، وكذا في وقت المحنة. فتبين عند النقاد أنه منا بريء، وعن ضرها عرى، وبعضها افتراء صرف في معاصريه الراوين، أو الحسدة والمخالفين، الذين لا يذكرون موقفهم بين يدي رب العالمين”.اهـ
قلت: وأسامة الأزهري يسير على خطا الهيتمي، وكأنه لا يذكر موقفه بين يدي ربِّ العالمين!!
وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
يتَّبع إن شاء الله ….

([1]) قال الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن آل بسَّام في كتابه “علماء نجد خلال ثمانية قرون” (1/438) في ترجمة الشيخ أحمد بن إبراهيم بن حمد بن عيسى (ت 1329 ه): “حدثني الشيخ الوجيه الأفندي محمد حسين نصيف –رحمه الله- قال لي: كان الشيخ أحمد بن عيسى يشتري الأقمشة من الشيخ عبدالقادر بن مصطفى التلمساني –أحد تجَّار جُدة- بمبلغ ألف جنيه ذهبًا، فيدفع له منها أربعمائة ويقسّط عليه الباقي، وآخر قسط يحل يستلمه الشيخ التلمساني إذا إلى مكة للحج من كل عام، ثم يبتدءون من أول العام بعقد جديد، وكان الكفيل للشيخ أحمد بن عيسى هو الشيخ مبارك المساعد من موالي آل بسَّام، وكان صاحب تجارة كبيرة في جدة، ودام التعامل بينهما زمنًا طويلاً، وكان الشيخ أحمد بن عيسى يأتي بالأقساط في موعدها المحدَّد لا يتخلَّف عنه ولا يماطل في أداء الحق، فقال له الشيخ عبدالقادر: إني عاملت الناس أكثر من أربعين عامًّا، فما وجدت أحسن من التعامل معك –يا وهَّابي- فيظهر أن ما يُشاع عنكم يا أهل نجد مبالغ فيه من خصومكم السياسيين، فسأله الشيخ أحمد أن يبين له هذه الشائعات، فقال: إنهم يقولون: إنكم لا تصلون على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا تحبونه، فأجابه الشيخ أحمد بقوله: سبحانك هذا بهتان عظيم، إن عقيدتنا ومذهبنا أن مَن لم يصلِّ على النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير، فصلاته باطلة، ومَن لا يحبه فهو كافر، وإنما الذي ننكره نحن –أهل نجد- هو الغلو الذي نهى النبي صلى الله عليه وسلم عنه، كما ننكر الاستعانة، والاستغاثة بالأموات، ونصرف ذلك لله وحده.
يقول الشيخ الراوي عن محمد نصيف عن الشيخ عبدالقادر التلمساني: فاستمر النقاش بيني وبينه في توحيد العبادة ثلاثة أيام حتى شرح الله صدري للعقيدة السلفية، وأما توحيد الأسماء والصفات الذي قرأته في الجامع الأزهر، فهو عقيدة الأشاعرة وكتب الكلام مثل السنوسية وأمّ البراهين وشرح الجوهرة وغيرها، فلهذا دام النقاش فيه بيني وبين الشيخ ابن عيسى خمسة عشر يومًا، بعدها اعتنقت مذهب السلف، وصرت آخذ التوحيد من منابعه الأصيلة الكتاب والسنة وأتباعهما من كتب السلف، فعلمت أن مذهب السلف أسلم وأعلم وأحكم بفضل الله تعالى ثم بحكمة وعلم الشيخ أحمد بن عيسى.
ثم إن الشيخ التلمساني أخذ يطبع كتب السلف، فطبع منها النونية لابن القيم، والصارم المنكي لابن عبدالهادي، والاستعاذة من الشيطان الرجيم لابن مفلح، والمؤمِّل إلى الرد الأول لأبي شامة، وغاية الأماني في الردّ على النبهاني للآلوسي وغيرها، وصار التلمساني من دعاة عقيدة السلف.
قال الشيخ محمد نصيف: فهداني الله إلى عقيدة السلف بواسطة الشيخ عبدالقادر التلمساني، فالحمد لله على توفيقه”.اهـ
قلت: وانظر أيضًا كتاب “محمد نصيف: حياته وآثاره” (ط المكتب الإسلامي).
([2]) والقاسمي رغم حرصه على نشر كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، إلا أنه خالف منهج شيخ الإسلام –الذي هو منهج السلف الصالح- في أمور تأثر فيها بمنهج شيخه محمد عبده، والذي بدوره كان متأثرًا بمنهج جمال الدين الأفغاني الشيعي البابي الماسوني، والأخيران كانا من رءوس الماسونية.
وقد صنَّف القاسمي كتابين -وهما: “تاريخ الجهمية والمعتزلة”، و”ميزان الجرح والتعديل”- تحامى فيهما في الدفاع عن الجهمية والمعتزلة والخوارج، بل دافع عن إمام التعطيل الجهم بن صفوان.