اغتنام اجتماع الغافلين بعد صلاة العشاء في رمضان لتعليمهم أصول الدين

اغتنام اجتماع الغافلين بعد صلاة العشاء في رمضان لتعليمهم أصول الدين

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتّبع هداه،
أما بعد، فإنه من المقرَّر شرعًا أن تعليم الناس العقيدة الصحيحة والمنهج السوي من أعظم القربات التي يتقرب بها العبد إلى الله عز وجل في كل وقت وحين، ويزداد الفضل إذا اشتدت غربة الحق وقلَّ العلماء الناصحون -أو انعدموا- في بعض البلاد والمواضع، حتى اتخذ الناس فيها رءوسًا جهالاً، فأفتوهم بغير علم فضلُّوا وأضلُّوا.
ومن المتقرر بداهة أن تعليم الناس الضروري من أمر دينهم من التوحيد وأصول المعتقد وأصول العبادات هذا فرض كفائي على كل مستطيع، وقد يتعين هذا على البعض في بعض المناطق إذا لم يوجد غيرهم لتعليم الناس ما ينجون به من عذاب الله عز وجل.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترقب المجتمعات التي كان يجتمع فيها المشركون في الجاهلية؛ كي يبلغهم دعوة الحق، كما قال أحمد في مسنده (22/346-349): حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، أَخْبَرَنَا مَعْمَرٌ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ، عَنْ جَابِرٍ، قَالَ: مَكَثَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ عَشْرَ سِنِينَ، يَتْبَعُ النَّاسَ فِي مَنَازِلِهِمْ بعُكَاظٍ وَمَجَنَّةَ، وَفِي الْمَوَاسِمِ بِمِنًى، يَقُولُ «مَنْ يُؤْوِينِي؟ مَنْ يَنْصُرُنِي حَتَّى أُبَلِّغَ رِسَالَةَ رَبِّي، وَلَهُ الْجَنَّةُ؟» حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَخْرُجُ مِنَ الْيَمَنِ، أَوْ مِنْ مِصْرَ – كَذَا قَالَ – فَيَأْتِيهِ قَوْمُهُ، فَيَقُولُونَ: احْذَرْ غُلَامَ قُرَيْشٍ، لَا يَفْتِنُكَ، وَيَمْشِي بَيْنَ رِجَالِهِمْ، وَهُمْ يُشِيرُونَ إِلَيْهِ بِالْأَصَابِعِ، حَتَّى بَعَثَنَا اللَّهُ لَهُ مِنْ يَثْرِبَ، فَآوَيْنَاهُ، وَصَدَّقْنَاهُ، فَيَخْرُجُ الرَّجُلُ مِنَّا فَيُؤْمِنُ بِهِ، وَيُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ، فَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ فَيُسْلِمُونَ بِإِسْلَامِهِ، حَتَّى لَمْ يَبْقَ دَارٌ مِنْ دُورِ الْأَنْصَارِ إِلَّا وَفِيهَا رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُظْهِرُونَ الْإِسْلَامَ، ثُمَّ ائْتَمَرُوا جَمِيعًا، فَقُلْنَا: حَتَّى مَتَى نَتْرُكُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُطْرَدُ فِي جِبَالِ مَكَّةَ وَيَخَافُ؟ فَرَحَلَ إِلَيْهِ مِنَّا سَبْعُونَ رَجُلًا حَتَّى قَدِمُوا عَلَيْهِ فِي الْمَوْسِمِ، فَوَاعَدْنَاهُ شِعْبَ الْعَقَبَةِ، فَاجْتَمَعْنَا عِنْدَهُ مِنْ رَجُلٍ وَرَجُلَيْنِ حَتَّى تَوَافَيْنَا، فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، علَامَ نُبَايِعُكَ، قَالَ: «تُبَايِعُونِي عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي النَّشَاطِ وَالْكَسَلِ، وَالنَّفَقَةِ فِي الْعُسْرِ وَالْيُسْرِ، وَعَلَى الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ، وَالنَّهْيِ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأَنْ تَقُولُوا فِي اللَّهِ، لَا تَخَافُونَ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ، وَعَلَى أَنْ تَنْصُرُونِي، فَتَمْنَعُونِي إِذَا قَدِمْتُ عَلَيْكُمْ مِمَّا تَمْنَعُونَ مِنْهُ أَنْفُسَكُمْ، وَأَزْوَاجَكُمْ، وَأَبْنَاءَكُمْ، وَلَكُمُ الْجَنَّةُ» ، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، وَأَخَذَ بِيَدِهِ أَسْعَدُ بْنُ زُرَارَةَ، وَهُوَ مِنْ أَصْغَرِهِمْ، فَقَالَ: رُوَيْدًا يَا أَهْلَ يَثْرِبَ، فَإِنَّا لَمْ نَضْرِبْ أَكْبَادَ الْإِبِلِ إِلَّا وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنَّ إِخْرَاجَهُ الْيَوْمَ مُفَارَقَةُ الْعَرَبِ كَافَّةً، وَقَتْلُ خِيَارِكُمْ، وَأَنَّ تَعَضَّكُمُ السُّيُوفُ، فَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَصْبِرُونَ عَلَى ذَلِكَ، وَأَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ، وَإِمَّا أَنْتُمْ قَوْمٌ تَخَافُونَ مِنْ أَنْفُسِكُمْ جَبِينَةً، فَبَيِّنُوا ذَلِكَ، فَهُوَ أَعْذَرَ لَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ، قَالُوا: أَمِطْ عَنَّا يَا أَسْعَدُ، فَوَاللَّهِ لَا نَدَعُ هَذِهِ الْبَيْعَةَ أَبَدًا، وَلَا نَسْلُبُهَا أَبَدًا، قَالَ: فَقُمْنَا إِلَيْهِ فَبَايَعْنَاهُ، فَأَخَذَ عَلَيْنَا، وَشَرَطَ، وَيُعْطِينَا عَلَى ذَلِكَ الْجَنَّةَ”.
وقد جاء تصريح أبي الزبير بالتحديث في الحديث التالي له حيث قال أحمد: حَدَّثَنَا دَاوُدُ بْنُ مِهْرَانَ، حَدَّثَنَا دَاوُدُ يَعْنِي الْعَطَّارَ، عَنِ ابْنِ خُثَيْمٍ عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ: عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَبِثَ عَشْرَ سِنِينَ، فَذَكَرَ الْحَدِيثَ..
وداود بن مهران-هو أبو سليمان الدباغ- لم يخرج له أصحاب الكتب الستة-، لكنه ثقة. وداود العطَّار: هو داود بن عبد الرحمن العطار، قال الحافظ في التقريب: ثقة، لم يثبت أن ابن معين تكلم فيه، فهذا إسناد صحيح.
هذا، وقد اعتدنا –في مصر خاصَّةً- قيام مجموعة من المسلمين الغافلين بتعمير المساجد في شهر رمضان فقط، ويتفاوت حضورهم في الصلوات الخمس، لكن الأغلب هو اجتماعهم في صلاة العشاء، وقد يصلي بعضهم ركعتين أو أربع من صلاة القيام وينصرف.
والشاهد أن هؤلاء الغافلين قد لا يعرف أحدهم أركان الإيمان، وإن عرفها إجمالاً لم يعرف المعتقد الصحيح فيها تفصيلاً، وجلُّهم –إلا من رحم الله- لا يفرق بين التوحيد والشرك، ولا السنّة والبدعة، ولا المنهج السلفي والمناهج البدعية في فهم الكتاب والسنة.
أضف إلى هذا قيام وسائل الإعلام من قنوات فضائية وصحف ومجلات بإثارة الشبهات ليلاً ونهارًا ضد دعوة الحق؛ مما يجعلهم معبئين بالباطل على جهالة وضلالة إلا من سلّمه الله منهم بفطرة سليمة تمنعه من قبول كل ما يُلقَى عليه من هؤلاء المبطلين.
ومن ثَمَّ وجب تبليغ دعوة الحق إليهم –إن شاء الله- للمستطيع بكل وسيلة ممكنة.
وبعض طلبة العلم يغتنم اجتماع هؤلاء في صلاة العشاء –كما ذكرت- كي يقوم على تعليمهم وإرشادهم، فقام آخرون بالإنكار عليهم أن طائفة من العلماء أنكروا مسألة الموعظة التي يقوم بها الوعاظ والخطباء بعد الأربع ركعات الأولى من صلاة التراويح، وأن لزومها بغير حاجة في كل ليلة يعد بدعة، وممن أفتى بهذا: العلامة الألباني، والعلامة ابن عيثمين –رحمهما الله-.
فقلت: إن الجهة منفكة بين الأمرين لما يلي:
o أولاً: الدرس التعليمي بعد الصلوات من باب تعليم الناس الضروري من أمر دينهم هذا أمر مستحب طول العام على حسب حاجة الناس وقدرتهم على التلَقي، وهذا كان هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ثبت في غير ما حديث، نحو:
، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّمَا صَنَعْتُ هَذَا لِتَأْتَمُّوا وَلِتَعَلَّمُوا صَلاَتِي»، أخرجه البخاري (917)، ومسلم (544).، فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِحديث سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرسل إلى امْرَأَةٍ مِنَ الأَنْصَارِ أن «مُرِي غُلاَمَكِ النَّجَّارَ، أَنْ يَعْمَلَ لِي أَعْوَادًا، أَجْلِسُ عَلَيْهِنَّ إِذَا كَلَّمْتُ النَّاسَ» فَأَمَرَتْهُ فَعَمِلَهَا مِنْ طَرْفَاءِ الغَابَةِ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا، فَأَرْسَلَتْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَرَ بِهَا فَوُضِعَتْ هَا هُنَا، ثُمَّ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى عَلَيْهَا وَكَبَّرَ وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ رَكَعَ وَهُوَ عَلَيْهَا، ثُمَّ نَزَلَ القَهْقَرَى، فَسَجَدَ فِي أَصْلِ المِنْبَرِ ثُمَّ عَادَ
، فَقَالَ: «أَيُّهَا النَّاسُ، إِنِّي إِمَامُكُمْ، فَلَا تَسْبِقُونِي بِالرُّكُوعِ وَلَا بِالسُّجُودِ، وَلَا بِالْقِيَامِ وَلَا بِالِانْصِرَافِ، فَإِنِّي أَرَاكُمْ أَمَامِي وَمِنْ خَلْفِي» ثُمَّ قَالَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، لَوْ رَأَيْتُمْ مَا رَأَيْتُ لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا» قَالُوا: وَمَا رَأَيْتَ يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: «رَأَيْتُ الْجَنَّةَ وَالنَّارَ»، أخرجه مسلم (426).فَلَمَّا قَضَى الصَّلَاةَ أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِوفي حديث الْمُخْتَارِ بْنِ فُلْفُلٍ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ
، فَقَالَ: ” يَا أَيُّهَا النَّاسُ، مَا لَكُمْ حِينَ نَابَكُمْ شَيْءٌ فِي الصَّلاَةِ أَخَذْتُمْ بِالتَّصْفِيحِ؟ إِنَّمَا التَّصْفِيحُ لِلنِّسَاءِ، مَنْ نَابَهُ شَيْءٌ فِي صَلاَتِهِ فَلْيَقُلْ: سُبْحَانَ اللَّهِ ” ثُمَّ التَفَتَ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ لِلنَّاسِ حِينَ أَشَرْتُ إِلَيْكَ؟» قَالَ أَبُو بَكْرٍ: مَا كَانَ يَنْبَغِي لِابْنِ أَبِي قُحَافَةَ أَنْ يُصَلِّيَ بَيْنَ يَدَيْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أخرجه البخاري (1218).فَلَمَّا فَرَغَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِوفي حديث سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ بَنِي عَمْرِو بْنِ عَوْفٍ بِقُبَاءٍ كَانَ بَيْنَهُمْ شَيْءٌ، فَخَرَجَ يُصْلِحُ بَيْنَهُمْ فِي أُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، فَحُبِسَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحَانَتِ الصَّلاَةُ، فَجَاءَ بِلاَلٌ إِلَى أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، فَقَالَ: يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ حُبِسَ، وَقَدْ حَانَتِ الصَّلاَةُ، فَهَلْ لَكَ أَنْ تَؤُمَّ النَّاسَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِنْ شِئْتَ، فَأَقَامَ بِلاَلٌ الصَّلاَةَ وَتَقَدَّمَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَكَبَّرَ لِلنَّاسِ وَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمْشِي فِي الصُّفُوفِ يَشُقُّهَا شَقًّا، حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، فَأَخَذَ النَّاسُ فِي التَّصْفِيحِ – قَالَ سَهْلٌ: التَّصْفِيحُ: هُوَ التَّصْفِيقُ – قَالَ: وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، لاَ يَلْتَفِتُ فِي صَلاَتِهِ، فَلَمَّا أَكْثَرَ النَّاسُ التَفَتَ فَإِذَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَشَارَ إِلَيْهِ يَأْمُرُهُ: «أَنْ يُصَلِّيَ»، فَرَفَعَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَدَهُ فَحَمِدَ اللَّهَ، ثُمَّ رَجَعَ القَهْقَرَى وَرَاءَهُ حَتَّى قَامَ فِي الصَّفِّ، وَتَقَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَصَلَّى لِلنَّاسِ،
ولذلك أعجبتني كلمة قالها الشيخ عبدالرحمن محيي الدين –حفظه الله- لما عرضت عليه هذه المسألة، وهي قوله: “تعليم الناس ليس مقيَّدًا بوقت”، فقلت له: يعني على حسب حاجة الناس، فقال: نعم هذا هو الصحيح، وقد جرت بعد ذلك في وقت آخر مناقشة بيني وبين الشيخ حفظه الله حول هذه المسألة يأتي –إن شاء الله- نصُّها فيما يلي.
ومن ثمَّ اغتنام الداعية أو طالب العلم اجتماع هؤلاء الغافلين في المساجد في شهر رمضان لتعليمهم الضروري من أمر دينهم لا ينبغي أن ينزل عليه ما أنكره بعض العلماء من هذه الموعظة الدائمة التي يلقيها واعظ أو قصَّاص عادة بعد الأربع ركعات الأولى من صلاة القيام، وهذه الموعظة بُنيَت -في الغالب الأعمِّ- على القصص والأحاديث الواهية، ليس فيها تعليم ولا تصحيح عقيدة ولا بيان للمنهج الحقِّ.
o ثانيًا: ثبوت مدارسة العلم في كل ليلة من شهر رمضان عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ، وَكَانَ أَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وَكَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ فَيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدُ بِالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ»، أخرجه البخاري (6)، ومسلم (2308).
o ثالثًا: كونه لم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يجلس لتعليم الناس في المسجد في شهر رمضان بعد صلاة العشاء، هذا يعد أمرًا تركيًّا، وتروكه صلى الله عليه وسلم تنقسم إلى قسمين:
ü الأول: ما تركه ليس بيانًا لسنية الترك، وإنما لسبب آخر، وهو أحد ثلاثة أسباب:
1. الترك الجبلّي أو العادي؛ كتركه أكل الضب، ويدخل في هذا الترك: النسيان للتشريع، نحو: السهو في الصلاة.
2. الترك الخاص به بالنص الشرعي؛ كتركه أكل الثوم.
3. الترك لمانع شرعي أو لمصلحة شرعية؛ كترك قتل المنافقين، وترك الكعبة على غير قواعد إبراهيم عليه السلام.
ü الثاني: ما تركه بيانًا لسنية الترك، وهو ما يسمَّى بـ “الترك البياني”، أو “الترك التشريعي”، وهذا هو محل الاقتداء؛ فهو المقصود في باب السنة التركية.
· وحدُّ السنة التركية: هي ترك النبي صى الله عليه وسلم فعل شيء مع وجود مقتضيه وإنتفاء مانعه؛ قاصدًا هذا الترك.
وهو على ثلاثة أنواع:
1. تركه صلى الله عليه وسلم للمحرم شرعًا، نحو تركه التطيب في بدنه في الإحرام.
2. تركه صلى الله عليه وسلم السؤال عن واقعة ما يدل على عموم حكمها، وهي القاعدة المنسوبة إلى الإمام الشافعي: “ترك الاستفصال في حكاية الحال مع قيام الاحتمال، ينزل منزلة العموم في المقال، ويحسن بها الاستدلال”.
3. سكوته صلى الله عليه وسلم عن حكم لو كان مشروعًا لبيَّنه، وقد يمثل لهذا بسكوته عن بيان حكم المرأة في كفارة المجامع أهله في نهار رمضان، وهذا القسم يشبه السنة التقريرية، لكن السنة التقريرية إنما إقرار النبي صلى الله عليه وسلم قول أو فعل صدر أمامه من أحد الصحابة، أما السنة التركية، فهي تقوم على دلالة السكوت وهي أعمُّ.
فخرج بهذا الحدِّ للسنة التركية خمسة أمور:
1. ما تركه لعدم القدرة عليه، وهذا هو الترك العدمي.
2. السنة الفعلية والقولية والتقريرية.
3. ما تركه لعدم وجود مقتضيه؛ كتركه جمع القرآن، ومنه المصلحة المرسلة.
وحدُّ المصلحة المرسلة: ما لم يشهد له الشرع باعتباره ولا بإلغائه بدليل معين، لكن في هذه المصلحة المرسلة وصفًا مناسبًا لتشريع حكم معين من شأنه أن يحقق منفعة أو يدفع مفسدة.
4. ما تركه لوجود مانع منه، كترك صلاة التراويح في جماعة في أول الأمر خشية أن تفرض علينا.
5. ما تركه جبلة، أو عادة، أو لخصوصية.
والذي يظهر أن مسألتنا هي من القسم الثالث والذي يتعلّق بوجود المقتضى، وهو في هذه المسألة الحاجة إلى تعليم الناس الضروري من أمر دينهم في العقيدة والمنهج والعبادات والمعاملات.
o رابعًا: أن دروس العلماء ما زالت قائمة في شهر رمضان في الحرمين وفي كافة المساجد في كل البلاد بعد الفجر والظهر والعصر، وبعد صلاة القيام، والغرض هو تعليم المسلمين، وبعضها دروس خاصة بطلبة العلم، فإذا خصِّص بعد العشاء درس لتعليم هؤلاء الغافلين الضروري من أصول العقيدة والمنهج مع دفع شبهات المرجفين الذين يسعون لإفساد دينهم؛ اغتنامًا لفرصة اجتماعهم في هذا الوقت، فهل يصح أن يقال: إن هذا ليس من السنّة؟!
لكن أقول: ينبغي على العالم أو طالب العلم أن يكون خبيرًا بأحوال الناس مراعيًا لهم، فإذا شعر بسآمة منهم أو عدم استعدادهم لاستقبال هذا العلم في وقت ما، فليترك، فإذا وجد منهم نشاطًا استمر، وهذا هو هدي النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الذي بيَّنه البخاري في كتاب العلم من صحيحه في قوله: بَابُ مَا كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَخَوَّلُهُمْ بِالْمَوْعِظَةِ وَالعِلْمِ كَيْ لاَ يَنْفِرُوا، وأخرج حديث ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ «يَتَخَوَّلُنَا بِالْمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا».
وقد سألت شخينا فضيلة أ.د. عبدالرحمن محيي الدين عن تخصيص هذا الدرس بعد العشاء مباشرة لاغتنام الفرصة المشار إليها وتحقيق المصلحة المرجوّة، فقال حفظه الله: “الرسول صلى الله عليه وسلم كان وقته كلُّه في التذكرة والتعليم.. وإذا خصَّص هذا ونُظِّم فلا بأس، فالجامعة الإسلامية مخصَّصة.. فهذه الأمور على حسب حاجة الناس”.
ثم عقَّب ممعنًا في النصيحة –جزاه الله خيرًا-: “يا أبا عبدالأعلى الدعوة لا تتركها أبدًا والدروس لا تتركها لأجل كائنًا من كان، ما دام ما منعتك الدولة، فلا تتركها.. ودعك من إرجاف المرجفين، فإرضاء الناس غاية لا تدرك، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: “من أرضى الناس بسخط الله أسخط الله عليه الناس”، فأنت الغرض أن تعلّمهم التوحيد، هذا هو الطريق الذي نمشي فيه، ما وجدنا فرصة –أي للدعوة والتعليم- إلا ونغتنمها”.
فقلت له حفظه الله: تعليم هؤلاء أمانة في أعناقنا! فقال: الناس في حاجة –أي إلى هذا العلم-.
ثم قلت: خاصة أن القنوات الفضائية صارت تلقي عليهم الشبهات ليلاً ونهارًا، فإذا لم نغتنم هذه اللحظات كي يسمعوا كلمة حق واحدة، فمتى يسمعونها؟!
فقال أحسن الله إليه: ما دام وُجِدوا عندك، فهذه فرصة ذهبية نغتنمها.. كنت أقول لهم في الجامعة هذه أعظم فرصة، ربي جمع لكم من جميع أنحاء العالم كي تعلّموهم التوحيد، من ثمانين دولة أو مائة دولة.. نحن نعمل ولا علينا”.
أيضًا عرضت خلاصة هذا البحث على شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي، ومعالي الشيخ سليمان أبا الخيل، وفضيلة الشيخ أ.د. عبدالمحسن المنيف –حفظهم الله جميعًا-، فتوافقت إجاباتهم كالتالي:
شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي قال: “جزاك الله خيرًا.. أن تعلّم هؤلاء التوحيد.. هذا أمر طيب”.
ومعالي الشيخ سليمان أبا الخيل قال: “العلم ليس له وقت معيّن، العلم في أيّ وقت”.
وفضيلة الشيخ أ.د. عبدالمحسن المنيف قال: “الأمر فيه سعة.. إذا كان المقصود تعليم الناس وتنبيههم، فالأمر فيه سعة”.
وقد قرأت البحث كاملاً أيضًا في جلسة واحدة –وهي مسجَّلة- على فضيلة شيخنا الوالد حسن بن عبدالوهّاب مرزوق –حفظه الله-، فقال: “ما شاء الله.. كلام طيب.. فتح الله عليك، أحسنت.. ليس كلُّ الناس يستطيع الإتيان بهذا التأصيل”.
«وَلْتُفْشُوا العِلْمَ، وَلْتَجْلِسُوا حَتَّى يُعَلَّمَ مَنْ لاَ يَعْلَمُ، فَإِنَّ العِلْمَ لاَ يَهْلِكُ حَتَّى يَكُونَ سِرًّا».وأخيرًا أذكِّر بوصية عمر بن عبدالعزيز رحمه الله:

وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.

وكتب

أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري

ابتداء في الثاني عشر من شهر رمضان 1438 بالمدينة النبوية

وانتهاءً في ليلة السبت الخامس عشر من شهر رمضان 1438 بمكة