المأثور في كون الرسول صلى الله عليه وسلم سراج منير ونور!!

 المأثور في كون الرسول صلى الله عليه وسلم سراج منير ونور!!

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه،

أما بعد، فهناك آياتان من كتاب الله عز وجل تشتبهان على البعض، وهما:

قول الله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. وَدَاعِيًا إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}[الفرقان: 61].

وقوله تَعَالَى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15].

فظن بعض الغلاة أن هاتين الآيتين دليل على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلق من النور، وهذا باطل كما سيأتي إن شاء الله بيانه.

قال إمام المفسِّرين محمد بن جرير الطبري –رحمه الله- في “جامع البيان” (19/126) في بيان معنى قوله: { وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}: “وَضِيَاءً لِخَلْقِهِ يَسْتَضِيءُ بِالنُّورِ الَّذِي أَتَيْتُهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ عِبَادُهُ {مُنِيرًا}، يَقُولُ: ضِيَاءٌ يُنِيرُ لِمَنِ اسْتَضَاءَ بِضَوْئِهِ، وَعَمِلَ بِمَا أَمَرَهُ. وَإِنَّمَا يَعْنِي بِذَلِكَ، أَنَّهُ يَهْدِي بِهِ مَنِ اتَّبَعَهُ مِنْ أُمَّتِهِ”.

وقال ابن جرير في “جامع البيان” (8/263) في الآية الثانية: “يَقُولُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ خَاطَبَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ: قَدْ جَاءَكُمْ يَا أَهْلَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنَ اللَّهِ نُورٌ , يَعْنِي بِالنُّورِ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, الَّذِي أَنَارَ اللَّهُ بِهِ الْحَقَّ , وَأَظْهَرَ بِهِ الْإِسْلَامَ , وَمَحَقَ بِهِ الشِّرْكَ فَهُوَ نُورٌ لِمَنِ اسْتَنَارَ بِهِ يُبَيِّنُ الْحَقَّ, وَمِنْ إِنَارَتِهِ الْحَقَّ تَبْيِينُهُ لِلْيَهُودِ كَثِيرًا مِمَّا كَانُوا يُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ”.

وقال القاضي عياض في “الشفا”: “سُمّيَ بِذَلِكَ لِوُضُوحِ أمره، وَبَيَانِ نُبوَّتِهِ وَتَنْوِيرِ قُلُوبِ المؤمنين والعارفين بما جاء به”.

قلت: أي أنه صلى الله عليه وسلم نور أي هاديًا إلى نور الحق، كما في قوله تعالى: { وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، أي: تدل الناس على الحق وترشدهم إليه، وأما هداية التوفيق والسداد فلا يملكها إلا الله عز وجل.

وقد صنَّف أحد أقطاب الصوفية، وهو عبدالحق بن سبعين الأندلسي (ت 669) كتابًا بعنوان: “أنوار النبي صلى الله عليه وسلم: أسرارها وأنواعها” (ط دار الآفاق العربية/تحقيق: أحمد فريد المزيدي)، قال في (ص71): “فاعلم أنت وأهل الدرجات أن نور السماوات والأرض رسول الله صلى الله عليه وسلم مظهره ومشكاة مصباحه ووحيه زيتونة زيتها، ثم هو نفسه نور الله!!”.

وذكر ابن سبعين ثلاثة وثلاثين نوعًا من الأنوار المحمّدية؛ زعم!!

وقال صاحب كتاب “الأنوار المحمدية” (ص9): “اعلم أنه لما تعلَّقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها… ثم انبجست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح فهو الجنس العالي على جميع الأجناس، والأب الأكبر لجميع الموجودات”.

قلت: وهذا غلوٌّ شنيع يبرأ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث أخرج البخاري (3445) من حديث ابْنِ عَبَّاسٍ، سَمِعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ عَلَى المِنْبَرِ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «لاَ تُطْرُونِي، كَمَا أَطْرَتْ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا عَبْدُ اللَّهِ، وَرَسُولُهُ».

وهذا الادعاء والتزوير مخالف ومناقض مناقضة بيّنة لصريح القرآن والسنة في أن أول إنسان هو نبي الله آدم عليه السلام، وأنه سبحانه خلقه من طين، كما في قوله تعالى: {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ}.

وكما في حديث عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خُلِقَتِ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ، وَخُلِقَ آدَمُ مِمَّا وُصِفَ لَكُمْ»، أخرجه مسلم (2996).

ومناقض لقوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}، ونحوها من آيات بدء الخلق، ولما في الصحيحين من حديث عِمْرَان بْنِ حُصَيْنٍ لما سأله نَاسٌ مِنْ أَهْلِ اليَمَنِ، قَالُوا: جِئْنَاكَ نَسْأَلُكَ عَنْ هَذَا الأَمْرِ؟ قَالَ: «كَانَ اللَّهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، وَخَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ».

واشتُهر عند غلاة الصوفية حديث: “أول ما خلق الله نور نبيك يا جابر، وخلق بعده كل شيء، وخلق منه كل خير”، وفي رواية: “خلقه وخلق منه كل شيء”، وهو خبر طويل جدًّا في نحو أربع صفحات، وفي وجاء فيه تقسيم هذا النور إلى عشرة أقسام، وتعيين خلق كل نوع من الكائنات من قسم معين من الأقسام العشرة.

وقد بيَّن بطلان حديث جابر في بحث متين: الشيخ محمد أحمد عبدالقادر الشنقيطي في جزء سماه: “تنبيه الحذَّاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبدالرزاق”، وقرّظه الإمام عبدالعزيز بن عبدالله بن باز –رحمه الله-، وقال في تقريظه: “وكل من تأمل الأدلة الشرعية من الكتاب والسنة علم يقينًا أن هذا الخبر من جملة الأباطيل التي لا أساس لها من الصحة، وقد أغنى الله نبيه صلى الله عليه وسلم عن مثل هذا بما أقام من الدلائل القاطعة، والبراهين الساطعة، والمعجزات الباهرة على صحة نبوته ورسالته عليه الصلاة والسلام، كما أغناه عن هذا الخبر المكذوب وأشباهه بما وهبه من الشمائل العظيمة، والصفات الكريمة، والأخلاق الرفيعة التي لا يشاركه فيها أحد ممن قبله ولا ممن بعده، فهو سيد ولد آدم، وخاتم المرسلين، ورسول الله إلى جميع الثقلين، وصاحب الشفاعة العظمى، والمقام المحمود يوم القيامة إلى غير ذلك من خصائصه، وشمائله، وفضائله الكثيرة صلى الله عليه وسلم وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله ونصر دينه وذب عن شريعته وحارب ما خالفها..إلخ اهـ. وقد بيَّن الشيخ الشنقيطي في رسالته المشار إليها بطلان هذا الحديث عقلا ونقلاً فلتنظر”.

ونقل أحمد الشنقيطي كما في (ص29) عن أحمد صديق الغمّاري أنه قال في مقدمة كتابه “المغير على ما في الجامع الصغير”: “إنه موضوع لا يشك طالب علم في وضعه”.

وقال أبو بكر محمد زكريا في رسالته “الشرك في القديم والحديث” (ص880): “فأقدم من رأيت من نسبه إلى مخرج هو القسطلاني، حيث قال: (وروى عبد الرازق بسنده). ولكنه لم يصرح في أي كتاب خرجه بالسند.

ثم جاء الزرقاني في شرحه للمواهب اللدنية، فنسبه إلى عبد الرزاق في مصنفه، وزاد عليه تخريجًا آخر، فقال: (ولم يذكر الرابع من هذا الجزء، فليراجع من مصنف عبد الرزاق مع تمام الحديث، وقد رواه البيهقي ببعض مخالفة).

هكذا قال الزرقاني، ولكن ما وجدنا في المصنف بعد طول البحث والتنقيب أي حديث يشبهه ـ فضلاً أن يكون هذا موجودًا فيه ـ. فظننت لعل عبد الرزاق أخرجه في تفسيره، فبحثت عنه في تفسيره فلم أجده.

ثم رأيت شيخ الطريقة البرهانية قد أحال تخريجه إلى كتاب جنة الخلد ونسبه إلى عبد الرزاق، وقد بحثت عن هذا الكتاب لعلي أطلع على سند الحديث، ولكن دون جدوى فلم أعثر له على أثر، بل لم أقف على من نسب مثل هذا الكتاب لعبد الرزاق، وكذلك بحثت عن كتب عبد الرزاق الأخرى أيضًا فلم أجد له أثرًا، وقد بحثه غيري أيضًا في مصنفات عبد الرزاق فلم يعثر عليه.

بل قد شهد شاهد من القوم على براءة عبدالرزاق من هذا الحديث، وهو عبد الله بن الصديق الغماري -الذي وصفه العلوي المالكي بأنه محدٍّث الدنيا!!- حيث قال عبدالله بن الصديق الغماري: معلِّقًا على قول السيوطي في الحاوي على هذا الحديث: (إنه غير ثابت): (وهو تساهل قبيح، بل الحديث ظاهر الوضع، واضح النكارة، وفيه نفس صوفي … والعجب أن السيوطي عزاه إلى عبدالرزاق، مع أنه لا يوجد في مصنفه ولا تفسيره ولا جامعه، وأعجب من هذا أن بعض الشناقطة صدَّق هذا العزو المخطئ، فركَّب له إسنادًا من عبد الرزاق إلى جابر، ويعلم الله أن هذا كله لا أصل له، فجابر رضي الله عنه بريء من رواية هذا الحديث، وعبد الرزاق لم يسمع به، وأول من شهر بهذا الحديث ابن عربي الحاتمي، فلا أدري عمَّن تلقاه، وهو ثقة، فلا بد أن أحد المتصوفة المتزهدين وضعه … )”.

قلت: ومن صور الوضع في عصرنا الحديث محاولة افتعال أصل لهذا الحديث الذي لا أصل له، حيث قام بعض غلاة المتصوفة في هذا العصر بافتعال وتزوير مخطوطة للجزء المفقود المزعوم من مصنف عبدالرزاق، ونسبوها إلى القرن العاشر سنة 933 هـ، وأدرجوا حديث جابر المزعوم فيها!!

وقد صنَّف محمد زياد التُّكله جزءًا في بيان بطلان هذه الأكذوبة، بعنوان: “مجموع في كشف حقيقة الجزء المفقود المزعوم من مصنّف عبدالرزاق”، قال في (ص66-67): “فقد صدر مؤخراً كتابٌ كُتب عليه: الجزء الأول من المصنف للحافظ الكبير أبي بكر عبد الرزاق بن همام الصنعاني، بتحقيق عيسى بن عبدالله بن محمد بن مانع الحميري، وتقديم محمود سعيد ممدوح، الطبعة الأولى: 1425هـ- 2005م، دون ذكر للناشر، في مجيليد في 105 صفحات، منها 44 صفحة لمتن الكتاب.
وبتأمل الكتاب يتبين جليًّا أنه كتاب مكذوب مفترى، أُلصق زورًا وبهتانًا بالحافظ عبد الرزاق رحمه الله، وإنما افتُعل ونُشر لما في متونه من آراء منحرفة وأباطيل مدسوسة، مثل إثبات أولية النور المحمدي، وجملة خرافات أخرى”.

قلت: ويشبه هذا الحديث حَدِيثَ: “لَوْلاكَ لَمَا خَلَقْتُ الأَفْلاكِ”.

وهو حديث موضوع، كما حكم عليه: الحافظ ابن حجر في التلخيص، والصغاني في “الموضوعات” (78)، وعلِيٌّ الْقَارِيُّ فِي “الأسرار المرفوعة في الأخبار الموضوعة” (385)، والصنعاني في “الفوائد المجموعة” (ص326)، والألباني في الضعيفة (282).

قال القاري: “لَكِنَّ مَعْنَاهُ صَحِيحٌ فَقَدْ رَوَى الدَّيْلَمِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا مَرْفُوعًا: “أَتَانِي جِبْرِيلُ فَقَالَ يَا مُحَمَّدُ لَوْلَاكَ مَا خَلَقْتُ الْجَنَّةَ وَلَوْلَاكَ مَا خَلَقْتُ النَّارَ”، وَفِي رِوَايَةِ ابْنِ عَسَاكِرَ: “لَوْلَاكَ مَا خَلَقْتُ الدُّنْيَا”.

وعلّق الألباني على كلامه في الضعيفة قائلاً: ” الجزم بصحة معناه لا يليق إلا بعد ثبوت ما نقله عن الديلمي، وهذا مما لم أر أحدًا تعرض لبيانه، وأنا وإن كنت لم أقف على سنده، فإنى لا أتردد في ضعفه، وحسبنا في التدليل على ذلك تفرد الديلمي به، ثم تأكدت من ضعفه، بل وهائه، حين وقفت على إسناده في ” مسنده ” (1 / 41 / 2) من طريق عبيد الله بن موسى القرشي حدثنا الفضيل بن جعفر بن سليمان عن عبدالصمد بن علي بن عبد الله ابن عباس عن أبيه عن ابن عباس به.

قلت: وآفته عبد الصمد هذا، قال العقيلي: حديثه غير محفوظ، ولا يعرف إلا به”.

قلت: لا ريب أن رسول الله نور وسراج منير، لكن النور هنا نور الهداية، فقد بعثه الله هاديًا ومعلِّمًا للخير، وكان رؤوفًا رحيمًا بالمؤمنين، كما قال تعالى: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنَفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتِّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}.

والله المستعان وعليه التكلان.

وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم.

وكتب

أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري

 

ليلة السبت 14 ربيع الأول 1442http://abuabdelaala.net/wp-content/uploads/2020/10/المأثور-في-كون-الرسول-صلى-الله-عليه-وسلم-سراج-منير-ونور.pdf