بحث في “ميامن الصفوف في الصلاة”
بحث في “ميامن الصفوف في الصلاة”
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع هداه،
أما بعد، فقد اختلف العلماء في حكم تفضيل ميامن الصفوف على مياسره نظرًا لما يلي:
فقد جاء نصٌ صريح في تفضيل ميامن الصفوف ألا وهو ما أخرجه أبو داود (676) قال: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا مُعَاوِيَةُ بْنُ هِشَامٍ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ عُرْوَةَ، عَنْ عُرْوَةَ، عَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى مَيَامِنِ الصُّفُوفِ».
قال الألباني في ضعيف أبي داود (1/232/الأم): “حديث ضعيف بهذا اللفظ؛ أخطأ فيه معاوية بن هشام، وتفرد به، وفي حفظه ضعف. ولذا قال البيهقي: ” لا أراه محفوظاً “. وقد خالفه جماعة من الثقات عن سفيان وغيره عن أسامة فرووه بلفظ: ” على الذين يصِلون الصفوف “. وهو الصواب. وقال البيهقي: ” هو المحفوظ “. وقد صححه
جماعة من الأئمة، كما بيناه في الكتاب الآخر (رقم 680)”.
لكن أخرج مسلم (709) من حديث الْبَرَاءِ، قَالَ: كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ، يُقْبِلُ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: «رَبِّ قِنِي عَذَابَكَ يَوْمَ تَبْعَثُ – أَوْ تَجْمَعُ – عِبَادَكَ».
وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه (1/300) قال: حَدَّثَنَا وَكِيعٌ، عَنْ مِسْعَرٍ، عَنْ ثَابِتِ بْنِ عُبَيْدٍ، عَنِ ابْنِ الْبَرَاءِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا نُحِبُّ وَنَسْتَحِبُّ أَنْ نَقُومَ عَنْ يَمِينِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».
وبوّب عليه النووي في صحيح مسلم:” بَابُ اسْتِحْبَابِ يَمِينِ الْإِمَامِ”.
وبوّب البخاري في صحيحه في كتاب الأذان: (بَابُ مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَالْإِمَامِ).
وأخرج تحته حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: «قُمْتُ لَيْلَةً أُصَلِّي عَنْ يَسَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخَذَ بِيَدِي – أَوْ بِعَضُدِي – حَتَّى أَقَامَنِي عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ بِيَدِهِ مِنْ وَرَائِي».
قال الحافظ في الفتح (2/213) تعليقًا على تبويب البخاري: “أَوْرَدَ فِيهِ حَدِيث ابن عَبَّاسٍ مُخْتَصَرًا وَهُوَ مُوَافِقٌ لِلتَّرْجَمَةِ أَمَّا لِلْإِمَامِ فَبِالْمُطَابَقَةِ وَأَمَّا لِلْمَسْجِدِ فَبِاللُّزُومِ وَقَدْ تُعُقِّبَ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدِيثَ إِنَّمَا وَرَدَ فِيمَا إِذَا كَانَ الْمَأْمُومُ وَاحِدًا أَمَّا إِذَا كَثُرُوا فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى فَضِيلَةِ مَيْمَنَةِ الْمَسْجِدِ وَكَأَنَّهُ أَشَارَ إِلَى مَا أَخْرَجَهُ النَّسَائِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ كُنَّا إِذَا صَلَّيْنَا خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَحْبَبْنَا أَنْ نَكُونَ عَنْ يَمِينِهِ”.اهـ
قلت: وحديث البراء أخرجه مسلم كما مرّ بنا.
وقال شمس الدين البَرماوي (ت 837) في “اللامع الصبيح بشرح الجامع الصحيح” (4/65): “ووجه مطابقة الترجمة بميمنة المسجد أن المراد بها ميمنة الإمام”.
قلت: واستدل بعموم حديث عَائِشَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهَا- قالَتْ: كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم يُعْجِبُه التَّيَمُّنُ في تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وطَهُورِهِ، وَفي شَأْنِهِ كلِّهِ.
فقد استُدل به على استحباب الصلاة عن يمين الإِمام وفي ميمنة المسجد، كما في “كشف اللثام” للسفاريني (1/156)، و”البدر التمام شرح بلوغ المرام” لحسين المغربي (1/226)، وذخيرة العقبى للإثيوبي (3/61).
- ووردت آثار عن السلف الصالح في تفضيل الميامن وأخرى في تفضيل المياسر:
قال ابن أبي شيبة في مصنفه (1/300): نا عِيسَى بْنُ يُونُسَ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ عَطَاءٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: «خَيْرُ الْمَسْجِدِ الْمَقَامُ، ثُمَّ مَيَامِنُ الْمَسْجِدِ»، وإسناده صحيح.
قال الحافظ ابن رجب في فتح الباري (6/296): “وكأنه يريد: مقامَ الإمام، والله أعلم وأكثر العلماء على تفضيل ميمنة الصفوف وخلف الإمام.
وأنكره مالكٌ، ففي تهذيب المدونَّةِ: ومن دخل المسجد وقد قامت الصفوفُ قامَ حيث شاءَ، إن شاء خلف الإمام، وإن شاء عَن يمينه أو عَن يساره. وتعجب مالك ممن قالَ: يمشي حتى يقف حذوَ الإمام”.
وقال ابن أبي شيبة في مصنفه (1/300): حَدَّثَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مُغِيرَةَ، عَنْ حَمَّادٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ قَالَ: «يُسْتَحَبُّ يَمِينُ الْإِمَامِ».
وقال: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي مَعْشَرٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ أَنَّهُ كَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ يَقُومَ عَنْ يَمِينِ الْإِمَامِ”.
وقال: حَدَّثَنَا مَعْنُ بْنُ عِيسَى، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ أَبِي يَحْيَى قَالَ: «رَأَيْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيِّبِ يُصَلِّي فِي الشِّقِّ الْأَيْمَنِ مِنَ الْمَسْجِدِ».
وقال: حَدَّثَنَا الْمُحَارِبِيُّ، عَنْ حَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ قَالَ: «مَيَامِنُ الصُّفُوفِ تَزِيدُ عَلَى سَائِرِ الصُّفُوفِ خَمْسًا وَعِشْرِينَ دَرَجَةً».
وهذه كلها أسانيد صحيحة.
ومما جاء في صلاة بعض التابعين في اليسار:
وقال: حَدَّثَنَا عَبْدَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ سُفْيَانَ، عَنْ عِمْرَانَ الْمِنْقَرِيِّ، عَنِ الْحَسَنِ، وَابْنِ سِيرِينَ، أَنَّهُمَا كَانَا «يُصَلِّيَانِ عَنْ يَسَارِ الْإِمَامِ».
وأخرج عبدالرزاق في مصنفه (2/58): عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي مَنْ «رَأَى الْحَسَنَ، وَابْنَ سِيرِينَ يُصَلِّيَانِ فِي مَيْسَرَةِ الْمَسْجِدِ، لِأَنَّ مَنَازِلَهُمَا كَانَتْ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ»، قَالَ: «وَرَأَيْتُ مَعْمَرًا يُصَلِّي فِي مَيْسَرَةِ الْمَسْجِدِ».
وذهب الإمام ابن باز –رحمه الله- إلى تفضيل ميامن الصفوف، وصحّح الأحاديث الواردة في ذلك، كما في مجموع فتاويه (16/104)، (26/268).
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (6/323) الفتوى وقم (18049):
س: لقد سمعت إمام مسجدنا يقول: إن الحديث «إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف» حديث ضعيف لا يستدل به؛ لذلك يبدأ الصف من الوسط.
ج: هذا الحديث رواه أبو داود بإسناد حسن من حديث عائشة رضي الله عنها، وقد حسن الحافظ ابن حجر في (الفتح 2\213) إسناد الحديث بلفظ: (ميامن الصفوف) ، والحديث يدل على أفضلية ميمنة الصف، وأفضلية ميمنة الصف ثبتت بغير هذا الحديث، فقد أخرج أبو داود والنسائي بإسناد صحيح عن البراء بن عازب رضي الله عنه قوله: «كنا إذا صلينا خلف النبي صلى الله عليه وسلم أحببنا أن نكون عن يمينه» وزاد أبو داود: «فيقبل علينا بوجهه صلى الله عليه وسلم» وهذه الأفضلية داخلة في عموم أفضلية التيمن، ففي (الصحيحين) عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وفي شأنه كله» .
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … عضو … عضو … الرئيس
بكر أبو زيد … عبد العزيز آل الشيخ … صالح الفوزان … عبد الله بن غديان … عبد العزيز بن عبد الله بن باز
وسئل العلامة ابن عثيمين كما في “مجموع الفتاوى والرسائل” (13/45): “ورد في بعض الأحاديث: إن الملائكة تصلي على ميامن الصفوف، فهل الصلاة في الصف الأيمن أفضل من الصلاة في الصف الأيسر؟
فأجاب بقوله: “هذا الحديث “إن الله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف” ضعيف، وإن كان بعض العلماء حسَّنه، وأما الأيمن فلا شك أنه أفضل إذا تساوى مع الأيسر،أما إذا كان الأيسر اقرب إلى الإمام بفرق واضح فالأيسر أفضل”.
- أحاديث ضعيفة في الباب:
الحديث الأول:قال ابن ماجه (1007) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْحُسَيْنِ أَبُو جَعْفَرٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ عُثْمَانَ الْكِلَابِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو الرَّقِّيُّ، عَنْ لَيْثِ بْنِ أَبِي سَلِيمٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قِيلَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ تَعَطَّلَتْ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ عَمَّرَ مَيْسَرَةَ الْمَسْجِدِ كُتِبَ لَهُ كِفْلَانِ مِنَ الْأَجْرِ».
قلت: إسناده ضعيف لضعف عمرو بن عثمان الكلابي، وليث بن أبي سليم.
الحديث الثاني:أخرج البيهقي في الكبرى (3/147)، والطبراني في الأوسط (6/158) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ الْأَسْلَمِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِ اسْتَطَعْتَ إِنْ تَكُونَ خَلْفَ الْإِمَامِ، وَإِلَّا فَعَنْ يَمِينِهِ»، وَقَالَ: هَكَذَا كَانَ أَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ خَلْفَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الهيثمي في المجمع (2/92): “وَفِيهِ مَنْ لَمْ أَجِدْ لَهُ ذِكْرًا”.
وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان
ليلة 7 من المحرم 1440