تصحيح خطأ تاريخي حول هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

تصحيح خطأ تاريخي حول هجرة النبي صلى الله عليه وسلم

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه،

أما بعد، فإنه مما اشتُهر عند العامة أن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة كان في أول المحرم، وهذا خطأ تاريخي غريب لا ينتبه إليه الخطباء في كل عام حين يتكلّمون عن الهجرة، فضلاً عن أن ينتبه إليه العوام.

والصواب أن هجرته صلى الله عليه وسلم كانت في شهر ربيع الأول.

قال أبو محمد عبد الملك بن هشام في “السيرة النبوية” (1/317): “فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة إذ قدمها شهر ربيع الأول، إلى صفر من السنة الداخلة، حتى بنى له فيها مسجده ومساكنه”.

وقال أبو سرحان مسعود بن محمد بن علي السجلماسي الفاسي (ت 1119 ه) في “نفائس الدرر من أخبار سيد البشر” (2/362): “قال الحافظ ابن حجر: كان بين ابتداء هجرة الصحابة، وهجرته شهران ونصف على التحرير، والله أعلم.

أي؛ لأن ابتداء هجرة الصحابة كان في ذي الحجة، ومكث صلى الله عليه وسلم بقية ذي الحجة، والمحرم، وصفر، ثم أذن له في الهجرة هلال ربيع الأول فيما قاله ابن إسحاق، وكان خروجه صلى الله عليه وسلم أول يوم منه.

وقيل: لثلاث بقين من صفر، وجمع: فإنه خرج إلى الغار لثلاث بقين من صفر، وخرج منه غرة ربيع الأول.

وقيل: خرج لثمان خلون من ربيع الأول.

وخرج يوم الإثنين على مذهب الأكثر”.

وذكر ابن عبد البر في “الدرر في اختصار المغازي والسير” أن النبي صلى الله عليه وسلم وصل المدينة في يوم الثاني عشر من ربيع الأول.

وجاء في “صفوة السيرة النبوية” للحافظ ابن كثير (صنع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بالقاهرة) (2/125): “وقد كانت هجرته عليه السلام في شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة من بعثته عليه السلام، وذلك في يوم الإثنين”.

وقال يوسف النبهاني (ت 1350 ه) في “الأنوار المحمدية من المواهب اللدنية” (1/89): “وخرج من مكة لهلال ربيع الأول، وقدم المدينة لاثنتي عشرة خلت منه”.

وقال الحافظ زين الدين العراقي في “نظم الدُّرر السنية في السيرة الزكية” (256-257):

“حتى إذا أتى إلى قُباء                 نزلها بالسعد والهناء

في يوم الإثنين لثنتي عشره          من شهر مولدٍ فنعم الهجره”.

قلت: هكذا أطبقت كتب السيرة على أن الهجرة كانت في شهر ربيع الأول.

والسؤال الآن: كيف بدأ التأريخ بالهجرة؟

والجواب في الأثر التالي: قال ابن شبة في “أخبار المدينة” (2/758): حَدَّثَنَا هَارُونُ بْنُ مَعْرُوفٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ قَالَ: أَخْبَرَنِي عُثْمَانُ بْنُ عُبَيْدِ اللَّهِ قَالَ: سَمِعْتُ سَعِيدَ بْنَ الْمُسَيَّبِ يَقُولُ: “جَمَعَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ فَقَالَ: مَتَى نَكْتُبُ التَّارِيخَ؟ فَقَالَ لَهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مُنْذُ خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ أَرْضِ الشِّرْكِ، يَعْنِي يَوْمَ هَاجَرَ، فَكَتَبَ ذَلِكَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ”.

وأخرجه -أيضًا- البخاري في «التاريخ الصغير» (1/ 41)، والطبري في «تاريخه» (2/391)، والحاكم (3/ 14) من طريق عبد العزيز بن محمد، به. قال الحاكم: صحيح الإسناد. ووافقه الذهبي.

قلت: عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ مُحَمَّدٍ هو الدّاروردي.

وله طرق أخرى: منها: ما أخرجه الطبري في «تاريخه» (2/ 389) عن أُميَّة بن خالد وأبي داود الطيالسي، عن قُرَّة بن خالد السَّدوسي، عن محمد بن سيرين، عن عمرَ … ، فذكره.

وهذا إسناد رجاله ثقات، إلا أنه مرسل، ابن سيرين لم يَسْمع من عمر.

وقال ابن كثير في مسند الفاروق (1/445): “ذِكر بيان أنَّ عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه هو أوَّل من وَضَع التاريخَ، وجعله منوطًا بالأهلَّة الهجرية، ووافقه على ذلك الصحابةُ رضوان الله عليهم.

(290) قال الإمام أحمد: ثنا خالد بن حيَّان، ثنا فُرَات بن سلمان، عن ميمون بن مِهران قال: رُفِعَ إلى عمرَ -رضي الله عنه- صَكٌّ مَحَلُّه في شعبان، فقال عمرُ: أيُّ شعبانٍ؟ هذا الذي مَضَى، أو الذي هو آتٍ، أو الذي نحن فيه؟ ثم جَمَع أصحابَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقال: ضَعُوا للناس شيئًا يَعرفونه. فقال قائلٌ: اكتُبُوا على تاريخِ الرُّومِ. فقيل: إنَّه يَطولُ، وإنهم يَكتبون من عند ذي القَرنين. وقال قائلٌ: اكتُبُوا تاريخَ الفُرْسِ، كُلَّما قام مَلِكٌ طَرَح ما كان قبلَه. فاجتَمَع رأيُهُم على أن يَنظُرُوا: كم أقام رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة؟ فوَجَدوه أقامَ بها عشرَ سنينَ، فكَتَب أو كُتِبَ التاريخُ على هجرةِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم.

وأخرجه أبو عروبة الحسين بن محمد بن أبي معشر مودود السُّلَمي الجَزَري الحرَّاني (ت 318هـ) في “الأوائل” (127) حَدَّثَنَا أَبُو يُوسُف الصَّيْدَلانِيُّ حَدَّثَنَا خَالِد بْنُ حَيَّان به.

وقال في (291): قال حنبل: وحدثني أبي -إسحاق-، ثنا محمد بن عمر، ثنا ابن أبي سَبِرَة، عن عثمان بن عبد الله بن رافع، عن ابن المسيّب قال: “أوَّلُ مَن كَتَب التاريخَ عمرُ لسنتين ونصفٍ من خلافته، فكُتِبَ لستَّ عشرةَ من الهجرة بمشورةٍ من عليِّ بن أبي طالب”.

قال ابن عطية في “المحرر الوجيز” (3/30): “وأما كون المحرم أول السنة العربية وكان حقه إذ التاريخ من الهجرة أن يكون أول السنة في ربيع الأول فإن ذلك فيما يرون لأن عمر بن الخطاب دون ديوان المسلمين وجعل تاريخه المحرم إذ قبله انقضاء الموسم والحج فكان الحج خاتمة للسنة، واعتد بعام الهجرة وإن كان قد نقص من أوله شيء، ولما كانت سنة العرب هلالية بدىء العام من أول شهر ولم يكن في الثاني عشر من ربيع الذي هو يوم دخول النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، ولا كان عند تمام الحج لأنه في كسر شهر”.

وقال الحافظ في الفتح (7/ 687): “وقد أبدى بعضهم للبداءة بالهجرة مُناسبة، فقال: كانت القضايا التي اتفقت له، ويمكن أن يُؤَرَّخ بها أربعة: مولده، ومبعثه، وهجرته، ووفاته -صلى اللَّه عليه وسلم-، فرجح عندهم جعلها من الهجرة لأن المولِدَ والمبعث لا يخلو واحد منهما من النزاع في تعيين السنة، وأما الوفاة فأعرضوا عنه لما تُوقِع بذكره من الأسَفِ عليه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فانحَصَر في الهِجْرة، وإنما أخَّروه من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداءَ العزْمِ على الهجرة كان في المحرم، إذ البيعة -أي بيعة العقبة الثانية- وقعت أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة، فكان أول هلالٍ استهل بعد البيعة، والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسبَ أن يجعل مبتدأ، وهذا أقْوَى ما وقفتُ عليه من مناسبةِ الابتداء بالمحرم”.

وقال يوسف الصالحي في “سبل الهدى والرشاد” (12/39): “وروى سعيد بن منصور في «سننه» والبيهقي في «الشعب» بإسناده حسن، عن ابن عباس- رضي الله تعالى عنهما- قال في قوله تعالى: وَالْفَجْرِ [الفجر 1] قال: الفجر شهر المحرم وهو فجر السنة».

وقال الحافظ في أماليه: بهذا يحصل الجواب عن الحكمة في تأخير التاريخ من ربيع الأول إلى المحرم. بعد أن اتفقوا على جعل التأريخ من الهجرة وأن كانت في ربيع الأول.

وروى البخاري في «تاريخه» عن عبيد بن عمير- رحمه الله تعالى- قال: المحرم شهر الله، وهو رأس السنة، فيه يؤرخ التاريخ، وفيه يكسى البيت، ويضرب فيه الورق”.

  • (مبحث فرعي): الدليل على تعيين يوم وصوله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بيوم الإثنين:

قال الإمام أحمد (4/304/الرسالة) حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ دَاوُدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ، عَنْ خَالِدِ بْنِ أَبِي عِمْرَانَ، عَنْ حَنَشٍ الصَّنْعَانِيِّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: “وُلِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَاسْتُنْبِئَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَخَرَجَ مُهَاجِرًا مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْمَدِينَةِ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَقَدِمَ الْمَدِينَةَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ، وَتُوُفِّيَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ وَرَفَعَ الْحَجَرَ الْأَسْوَدَ يَوْمَ الْإِثْنَيْنِ”.

وأخرجه الطبراني (12984) ، والبيهقي في “دلائل النبوة” (7/233 -234) من طريق عبدالله بن لهيعة، بهذا الإِسناد، وابن لهيعة مختلط ومدلس، لكن له طريقين آخرين عن ابن عباس:

الطريق الأولى:قال الفاكهي في تاريخ مكة (2298) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الْوَاسِطِيُّ قَالَ: ثنا مُعَلَّى بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ: ثنا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا به.

وهذا إسناد ضعيف، عَبْدِ اللهِ بْنِ أَبِي جَعْفَرٍ فيه ولم يدرك ابن عباس، فهو منقطع.

وقال أبو الحسن خيثمة بن سليمان بن حيدرة بن سليمان القرشي الشامي الأطرابلسي (ت 343هـ) في حديثه (ص194): ” عَنْ خَلَفِ بْنِ مُحَمَّدٍ كُرْدُوسٌ الْوَاسِطِيُّ , عَنِ الْمُعَلَّى بْنِ عَبْدِالرَّحْمَنِ , عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ , عَنْ عُبَيْدِاللَّهِ بْنِ عَبْدِاللَّهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: وُلِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ , وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ النُّبُوَّةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي أَوَّلِ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ, وَأُنْزِلَتْ عَلَيْهِ الْبَقَرَةُ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ فِي رَبِيعٍ الْأَوَّلِ رَوَاهُ ابْنُ عَسَاكِرَ, وَهَذَا غَرِيبٌ جِدًّا”.

الطريق الثانية:قال الطبراني في الكبير (11/85) حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا الْغَلَابِيُّ، أنا عَبْدُ اللهِ بْنُ رَجَاءٍ، أنا إِسْرَائِيلُ، عَنْ مُسْلِمٍ الْأَعْوَرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «وُلِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَأُنْزِلَ عَلَيْهِ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَمَاتَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ».

وهذا إسناد ضعيف، لضعف مسلم الأعور، وليس فيه ذكر الهجرة.

وفي الباب عن أبي قتادة عند مسلم (1162) (197) وفيه: وسئل عن صوم يوم الاثنين، قال: “ذاك يوم وُلِدْتُ فيه، ويوم بُعِثْتُ أو أنزِلَ على فيه”.

وعن عائشة عند البخاري (1387) وفيه أن أبا بكر قال لها: في أي يوم توفي رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قالت: يوم الإثنين.

 

  • (مبحث فرعي) تعيين الأشهر الحرم، وتغيير العرب لها:

قال الله تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}.

قال ابن جرير: “يَقُولُ: هَذِهِ الشُّهُورُ الِاثْنَا عَشَرَ، مِنْهَا أَرْبَعَةُ أَشْهُرٍ حُرُمٌ كَانَتِ الْجَاهِلِيَّةُ تُعَظِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُهُنَّ وَتُحَرِّمُ الْقِتَالَ فِيهِنَّ، حَتَّى لَوْ لَقِيَ الرَّجُلُ مِنْهُمْ فِيهِنَّ قَاتَلَ أَبِيهِ لَمْ يَهِجْهُ”.

وعن أَبِي بَكْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “الزَّمَانُ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثَةٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ وَذُو الحِجَّةِ وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ، الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ”.

وقال الله تعالى: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.

قال محمد بن عبد الله الشِّبلِي في “تثقيف الألسنة بتعريف الأزمنة” (ص75-76(:

“قال البغوي: النسيء قيل: هو مصدر كالسعير والحريق، وقيل: هو مفعول كالجريح والقتيل.

وهو ممدود مهموز عند أكثر القراء، وقرأ ورش عن نافع بتشديد الياء من غير همز، فقد قيل: أصله الهمز فخفف، وقيل: من النسيان على معنى المنسي؛ أي: المتروك.

ثم في النسيء قولان:

أحدهما: أنه التأخير.

قال أبو زيد: نسأت الإبل عن الحوض إذا أخرتها، ومنه: النسية في البيع، ويقال: أنسأ الله أجله؛ أي: أخره، وكأن النسيء عبارة عن تأخير حرمة شهر إلى شهر.

والثاني: هو الزيادة.

قال قطرب: نسأ الله في الأجل؛ إذا زاد فيه. والصحيح الأول؛ نسأت المرأة إذا حملت لتأخير حيضها.

وكانت العرب تعتقد تعظيم الأشهر الحرم؛ تمسكًا به من ملة إبراهيم، وكانوا يعظِّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه لم يهجه، فكان يشق عليهم الكف عن معايشهم، وترك الإغارة ثلاثة أشهر على التوالي، فنسأوا –أي: أخروا- تحريم شهر إلى شهر، فأخروا حرمة المحرم إلى صفر، فكانوا يحلون المحرم ويحرمون صفرًا، وإذا احتاجوا إلى تحريم صفر أخروه إلى ربيع الأول، هكذا كل شهر، حتى يدور التحريم على شهور السنة كلها”.

وقال في (ص81): “ولم يزالوا يفعلون ذلك حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من شهور العام أربعةً كائنةً من كانت، واختلط عليهم، وخرج حسابه من أيديهم، فذلك قوله تعالى: {ليواطئوا عدة ما حرم الله}.

قال الزمخشري: “أي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفونها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربما زادوا في عدد الشهور فجعلوها ثلاثة عشر شهرًا أو أربعة عشر؛ ليتسع لهم الوقت”.

على حسب أغراضهم، ودار التحريم على جميع شهور العام كلها، فقام الإسلام وحج صلى الله عليه وسلم حجة الوداع وقد رجع المحرم إلى موضعه، وذلك بعد دهر طويل؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: “ألا إن الزمان قد استدار لهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا” الحديث.

وأعلمهم أن أشهر النسيء قد تناسخت باستدارة الزمن، وعاد الأمر إلى ما وضع عليه حساب الأشهر يوم خلق الله السماوات والأرض، وبيَّن لهم الأشهر الحرم، وعيَّن شهر رجب بإضافته إلى مضر لينفي رجب ربيعة، وزاد في بيانه فقال: “الذي بين جمادى وشعبان” كل ذلك؛ لئلا يتبدل فيما يأتي من الزمان، والله تعالى أعلم”.اهـ

 

وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم

وكتب

أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان

ليلة 7 من المحرم 1440