توقير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبيان حكم المتدنس بالسبِّ والتحقير
توقير رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وبيان حكم المتدنس بالسبِّ والتحقير
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه،
أما بعد، فإن حقوق رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تشمل: محبته فوق محبة النفس محبة اتباع وتأسي، مع التعزير والتوقير.
أخرج البخاري (15)، ومسلم (44) من حديث أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لاَ يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ، حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ».
وأخرج البخاري (16)، ومسلم (43) من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ: أَنْ يَكُونَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِمَّا سِوَاهُمَا، وَأَنْ يُحِبَّ المَرْءَ لاَ يُحِبُّهُ إِلَّا لِلَّهِ، وَأَنْ يَكْرَهَ أَنْ يَعُودَ فِي الكُفْرِ كَمَا يَكْرَهُ أَنْ يُقْذَفَ فِي النَّارِ”.
وقال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً}، وقال: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.
قال ابن جرير: “يَقُولُ: وَقَّرُوهُ وَعَظَّمُوهُ وَحَمَوْهُ مِنَ النَّاسِ.. وَأَعَانُوهُ عَلَى أَعْدَاءِ اللَّهِ وَأَعْدَائِهِ بِجَهَادِهِمْ وَنَصْبِ الْحَرْبِ لَهُمْ”.
وقال الله عز وجل: {لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
أخرج ابن جرير في “جامع البيان” (17/389) بسند صحيح عَنْ مُجَاهِدٍ: {كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63] قَالَ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي لِينٍ وَتَوَاضُعٍ، وَلَا يَقُولُوا: يَا مُحَمَّدُ، فِي تَجَهُّمٍ”، وفي رواية: “أَمَرَهُمْ أَنْ يَدْعُوهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فِي لِينٍ وَتَوَاضُعٍ”.
وأخرج بعده بسند صحيح عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: “أَمَرَهُمْ أَنْ يُفَخِّمُوهُ وَيُشَرِّفُوهُ”.
{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ}.
لكن ليس من محبته وتوقيره الاحتفال بمولده؛ لأن هذا الاحتفال لم يقم به أكثر الناس حبًّا له، وهم أصحابه والتابعون لهم بإحسان من السلف الصالح.
قال عمر بن علي بن سالم بن صدقة اللخمي الإسكندري، تاج الدين الفاكهاني (ت 734هـ) في “المورد في عمل المولد”: “لا أعلم لهذا المولد أصلاً في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة، في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين؛ بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكَّالون”.اهـ
قلت: وإنما ابتدع هذا الاحتفال الرافضة الذين لقَّبوا أنفسهم بـ”الفاطميين”، حيث ابتدعوا ستّة موالد كما نقل هذا تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في “الاعتبار بذكر الخطط والآثار” (2/490/الأميرية) (المجلد الثاني/591/ مؤسسة الفرقان) (2/436/ط دار الكتب العلمية).
ومقابل تعزير النبي صلى الله عليه وسلم وتوقيره: السبُّ والشتم والتحقير.
وقد صنِّفت عدة مصنَّفات في بيان حكم سابِّ النبي صلى الله عليه وسلم:
جاء في مقدِّمة تحقيق كتاب “السيف المشهور المسلول على الزنديق وسابِّ الرسول صلى الله عليه وسلم” (ص6-7) لمحيى الدين محمد بن قاسم المعروف بـ (أخَوَين) (ت 904 هـ) تحقيق الشيخ عبدالمجيد جمعة الجزائري ذكر أهم المصنَّفات في هذا الباب:
*”رسالة فيمن سبَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم” للإمام سحنون القيرواني (ت: 265 هـ)، ذكرها ابن فرحون في كتابه “الديباج المُذَهَّب” (236).
*”الصارم المسلول على شاتم الرسول” لشيخ الإسلام ابن تيمية (ت: 728 هـ)، وهو أشهرها، وأكثرها تحريرًا وتحقيقًا.
*”السيف المسلول على من سبَّ الرسول” لتقيِّ الدين السُّبكيِّ (ت: 756 هـ).
*”تنزيه الأنبياء عن تسفيه الأغبياء” للسيوطي (ت: 911 هـ)، وهي مطبوعة ضمن مجموعه: “الحاوي للفتاوى” (1/223).
*”السيف المسلول في سبِّ الرسول” لابن كمال باشا الحنفي (ت: 940 هـ)، توجد نسخة خطِّيَّة منه بالخزانة السُّليمانيَّة باستانبول، ومنها صورة بالجامعة الإسلامية بالمدينة برقم (7661/2)، وصورة بمركز الملك فيصل بالرياض (74906).
*”رشق السِّهام في أضلاع من سبَّ النبيَّ عليه السلام” لابن طولون الحنفي (ت: 953 هـ) ذكره في كتابه في ترجمة نفسه بيده: “الفلك المشحون في أحوال محمد بن طولون” (ص: 37 – مكتبة المقدسي/ دمشق: 1348 هـ).
*”تنبيه الولاة والحكَّام على أحكام شاتم خير الأنام” لابن عابدين (ت: 1252 هـ)، وهي مطبوعة ضمن مجموع رسائله (1/313 – 371).
كما عقد القاضي عياض فصلاً مهمًّا في كتابه: “الشفا بتعريف حقوق المصطفى” (2/ 214 وما بعدها) استوفى الكلام في المسألة، وبيَّن أصولها وفصولها؛ حتى صار عمدةً لمن جاء بعده”.اهـ
قلت: ومن المصنّفات أيضًا في هذا الباب:
- “السيف الجلي على سابِّ النبي”، تأليف: محمد هاشم بن عبدالغفور السندي التّتوي الحنفي (ت 1174) (ط دار الضياء/تحقيق: عبدالله الفهيمي السندي).
لكن من هو السابُّ؟ وما هي صفة السبِّ؟
قال القاضي عياض في “الشفا بتعريف حقوق المصطفى”:
“اعْلَم وفقنا اللَّه وإياك أَنّ جَمِيع من سَبّ النَّبِيّ صَلَّى اللَّه عَلَيْه وَسَلَّم أَو عَابَه أَو ألْحَق بِه نَقْصًا فِي نَفْسِه أَو نَسَبِه أَو دِينه أَو خَصْلَة من خِصَالِه أَو عَرّض بِه أو شبَّهه بشيء عَلَى طريق السَّبّ لَه أَو الإزْرَاء عَلَيْه أو التَّصْغِير لِشَأْنِه أَو الْغَضّ مِنْه وَالْعَيْب لَه فَهُو سَابٌّ لَه وَالْحُكْم فِيه حُكْم السَّابّ يقْتَل… وَكَذَلِك من لعنه أَو دعا عَلَيْه أَو تمنى مضرة لَه أو نسب إليه مَا لَا يليق بمنصبه عَلَى طريق الذم أَو عبث فِي جهَتِه العَزِيزَة بسُخْف مِن الْكَلَام وَهُجْر وَمُنْكَر مِن الْقَوْل وَزُور أَو عيَّره بشئ مِمَّا جَرَى مِن الْبَلَاء والْمِحْنَة عَلَيْه أَو غَمَصَه بِبَعْض الْعَوَارض الْبَشَرِيّة الْجَائِزَة وَالْمَعْهُودَة لَدَيْه وَهَذَا كُلُّه إجْماع مِن الْعُلمَاء وَأئِمَّة الْفَتْوَى من لَدُن الصَّحَابَة رِضْوَان اللَّه عَلَيْهِم إِلَى هَلُمّ جَرّا”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في “الصارم المسلول” (ص538-543/ط محيي الدين) (3/1005-1010) (ط رمادي):
“السب نوعان دعاء وخبر؛ أما الدعاء فمثل أن يقول القائل لغيره: لعنه الله أو قبحه الله أو أخزاه الله أو لا رحمه الله أو لا رضي الله عنه أو قطع الله دابره، فهذا وأمثاله سب للأنبياء ولغيرهم وكذلك لو قال عن نبي: لا صلى الله عليه أو لا سلم أو لا رفع الله ذكره أو محا الله اسمه ونحو ذلك من الدعاء عليه بما فيه ضرر عليه في الدنيا أو في الدين أو في الآخرة…”، ثم قال: ” وإذا لم يكن للسب حدٌّ معروف في اللغة ولا في الشرع فالمرجع فيه إلى عرف الناس فما كان في العرف سبًّا للنبي فهو الذي يجب أن ننزل عليه كلام الصحابة والعلماء وما لا فلا ونحن نذكر من ذلك أقساما فنقول:
لا شك أن إظهار التنقص والاستهانة عند المسلمين سب كالتسمية باسم الحمار أو الكلب أو وصفه بالمسكنة والخزي والمهانة أو الإخبار بأنه في العذاب وأن عليه آثام الخلائق ونحو ذلك وكذلك إظهار التكذيب على وجه الطعن في المكذب مثل وصفه بأنه ساحر خادع محتال وأنه يضر من اتبعه وأن ما جاء به كله زور وباطل ونحو ذلك فإن نظم ذلك شعرا كان أبلغ في الشتم فإن الشعر يحفظ ويروى وهو الهجاء وربما يؤثر في نفوس كثيرة مع العلم ببطلانه أكثر من تأثير البراهين فإن غني به بين ملأ من الناس فهو الذي قد تفاقم أمره وأما من أخبر عن معتقده بغير طعن فيه مثل أن يقول: أنا لست متبعه أو لست مصدقه أو لا أحبه أو لا أرضى دينه ونحو ذلك فإنما أخبر عن اعتقاد أو إرادة لم يتضمن انتقاصا لأن عدم التصديق والمحبة قد يصدر عن الجهل والعناد والحسد والكبر وتقليد الأسلاف وإلف الدين أكثر مما يصدر عن العلم بصفات النبي خلاف ما إذا قال من كان ومن هو رأى كذا وكذا هو ونحو ذلك وإذا قال: لم يكن رسولا ولا نبيا ولم ينزل عليه شيء ونحو ذلك فهو تكذيب صريح وكل تكذيب فقد تضمن نسبته إلى الكذب ووصفه بأنه كذاب لكن بين قوله: “ليس بنبي” وقوله: “هو كذاب” فرق من حيث إن هذا إنما تضمن التكذيب بواسطة علمنا أنه كان يقول: إني رسول الله وليس من نفى عن غيره بعض صفاته نفيا مجردا كمن نفاها عنه ناسبًا له إلى الكذب في دعواها والمعنى الواحد قد يؤدى بعبارات بعضها يعد سبًّا وبعضها لا يعد سبًّا…إلخ”.
قلت: لذلك مَن سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم -إذا كان مسلمًا- فإنه يكفر ويجب على ولي الأمر قتله.
قال ابن المنذر في “الإجماع” (720/تحقيقي): “وأجمعوا على أن [على] من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم: القتل”.
وقال في “الإشراف على مذاهب الأشراف” (8/60): “أجمع عوام أهل العلم على أن من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم: القتل.
وممن قال ذلك: مالك، والليث بن سعد، وأحمد، وإسحاق، وهو مذهب الشافعي.
وقد حكي عن النعمان أنه قال: لا يقتل من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الذمة، وما هم عليه من الشرك أعظم”.
وقال أبو جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي في “مختصر اختلاف العلماء” (3/506): “وَلَا خلاف بَين الْمُسلمين أَن من فعل ذَلِك بِالنَّبِيِّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَهُوَ مِمَّن ينتحل الْإِسْلَام أَنه مُرْتَد يقتل”.
وقال ابن القطَّان في “الإقناع في مسائل الإجماع” (3763): “وأجمع عوام أهل العلم على أن على من سبَّ النبي صلى الله عليه وسلم القتل”.
وقد قرّر هذا شيخ الإسلام ابن تيمية في “الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم” (2/13)، وقال: “هذا مذهب عليه عامة أهل العلم…”، ثم نقل كلام ابن المنذر بنحوه من “الإشراف”، ثم قال: “وقد حكى أبو بكر الفارسي من أصحاب الشافعي إجماع المسلمين على أن حدَّ من يسبُّ النبي صلى الله عليه وسلم القتل كما أن حدَّ من سبَّ غيره الجلد، وهذا الإجماع الذي حكاه هذا محمول على إجماع الصدر الأول من الصحابة والتابعين أو أنه أراد به إجماعهم على أن ساب النبي صلى الله عليه وسلم يجب قتله إذا كان مسلمًا، وكذلك قيَّده القاضي عياض فقال: “أجمعت الأمة على قتل متنقصه من المسلمين وسابِّه” وكذلك حُكِي عن غير واحد الإجماع على قتله وتكفيره..”.
قلت: وهذا الإجماع خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم.
أخرج أبو داود (4363) عَنْ أَبِي بَرْزَةَ، قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَتَغَيَّظَ عَلَى رَجُلٍ، فَاشْتَدَّ عَلَيْهِ، فَقُلْتُ: تَأْذَنُ لِي يَا خَلِيفَةَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ قَالَ: فَأَذْهَبَتْ كَلِمَتِي غَضَبَهُ، فَقَامَ، فَدَخَلَ، فَأَرْسَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: مَا الَّذِي قُلْتَ آنِفًا؟ قُلْتُ: ائْذَنْ لِي أَضْرِبُ عُنُقَهُ، قَالَ: أَكُنْتَ فَاعِلًا لَوْ أَمَرْتُكَ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: «لَا وَاللَّهِ، مَا كَانَتْ لِبَشَرٍ بَعْدَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ»، وصحّحه الألباني –رحمه الله-.
- مبحث في حكم قتل الساب إذا كان ذميًّا أو معاهدًا، خاصّة إذا تاب:
هذه المسألة خالف فيها أهل الرأي من الأحناف الجمهور الذين قالوا بوجوب قتله –وإن تاب-.
قال ابن القطَّان في “الإقناع في مسائل الإجماع” (1979): “وأجمعوا أن [من سبَّ النبي] من أهل الذمة (قتل) إلا النعمان فإنه قال: لا يقتل من سب النبي صلى الله عليه وسلم منهم؛ لأن […..] فأما من بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا أعلم أحدًا يوجب قتل من سبهم”.
وقال أبو جعفر أحمد بن سلامة الطحاوي في “مختصر اختلاف العلماء” (3/504): “قَالَ أَصْحَابنَا: فِيمَن سبّ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو عابه وَكَانَ مُسلمًا فقد صَار مُرْتَدًا وَلَو كَانَ ذِمِّيا عزّر وَلم يقتل”.
وقال أبو الخطَّاب عمر بن الحسن بن دحية (ت 632) في “نهاية السول في خصائص الرسول” (ص246): “وفيه من الفقه أن الذمي إذا ذكر الله تعالى ورسوله وكتابه بما لا ينبغي، أو استخفَّ بقدره أو وصفه بغير الوجه الذي كفر به، انتقضت ذمته، ولا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلِم؛ لأننا لم نعطه الذمة والعهد على هذا، وهذا قول عامّة العلماء..
وقال أبو حنيفة والثوري وأتباعهما من الكوفة: لا تنتقض ذمّته، وما هو عليه من الشرك أعظم، لكن يؤدَّب ويُعذَّر”.
قلت: وقد استنكر ابن حزم هذا القول من الأحناف أشد الاستنكار، فقال في “المحلَّى” (12/61): ” وَأَمَّا الْحَنَفِيُّونَ – فَيَقْتُلُونَ الْمُسْلِمَ بِالْكَافِرِ خِلَافًا عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى رَسُولِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمُحَافَظَةً لِأَهْلِ الْكُفْرِ، وَلَا يَقْتُلُونَ الْكَافِرَ إذَا سَبَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِحَضْرَةِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ فِي أَسْوَاقِهِمْ وَمَسَاجِدِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُونَ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ مَنْ سَبَّ اللَّهَ تَعَالَى جِهَارًا بِحَضْرَةِ الْمُسْلِمِينَ -وَهَذِهِ أُمُورٌ نَعُوذُ بِاَللَّهِ مِنْهَا-“.
وقال شيخ الإسلام في الصارم (2/16): “وتحرير القول فيها: أن الساب إن كان مسلمًا فإنه يكفر ويقتل بغير خلاف؛ وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم، وقد تقدم ممن حكى الإجماع على ذلك من الأئمة مثل إسحاق بن راهويه وغيره، وإن كان ذميًّا فإنه يقتل أيضًا في مذهب مالك وأهل المدينة… وهو مذهب أحمد وفقهاء الحديث”.
قلت: قام شيخ الإسلام في الصارم من (3/551) إلى (3/578) بتحرير المذاهب في حكم استتابة المسلم السابّ إذا تاب، ثم قام بتلخيصها بقوله: “وقد ذكرنا أن المشهور عن مالك وأحمد أنه لا يستتاب، ولا تسقط القتل عنه توبته، وهو قول الليث بن سعد.
وذكر القاضي عياض أنه المشهور من قول السلف وجمهور العلماء، وهو أحد الوجهين لأصحاب الشافعي.
وحُكي عن مالك وأحمد أنه تقبل توبته، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه، وهو المشهور من مذهب الشافعي بناء على قبول توبة المرتد”.
وأما المذاهب في توبة الذمي السابّ إذا تاب، فقد لخصها بقوله في (3/620):
“وقد ذكرنا فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: يقتل بكل حال وهو المشهور من مذهب الإمام أحمد، ومذهب مالك إذا تاب بعد أخذه، وهو وجه لأصحاب الإمام الشافعي.
الثاني: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام، وهو ظاهر الرواية الأخرى عن مالك وأحمد.
والثالث: يقتل إلا أن يتوب بالإسلام أو بالعودة إلى الذمة كما كان وعليه يدل ظاهر عموم كلام الشافعي إلا أن يتأول وعلى هذا فإنه يعاقب إذا عاد إلى الذمة ولا يقتل”.
قلت: ثم ذكر شيخ الإسلام في “الصارم” (3/707-864) سبعًا وعشرين طريقة من طرق الاستدلال على تحتم قتل الذمِّي والمسلم الساب –وإن تاب-.
وقال في (3/707): “ومن تأمَّل سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتله لبني قريظة وبعض أهل خيبر وبعض بني النضير وإجلائه لبني النضير وبني قينُقاع بعد أن نقض هؤلاء الذمّة وحرَصوا على أن يجيبهم إلى عقد الذمة ثانيًا فلم يفعل، ثم سنة خلفائه وصحابته في مثل هذا المؤذي وأمثاله”.
وذكر بعد ذلك طرق الاستدلال على تحتم قتل الذمِّي والمسلم بالسبِّ، وذكر منها الاستدلال بآية الحرابة، وأن السابّ يدخل فيها، وأنه يستحق القتل والصلب؛ لأنه –بهذا السبّ- من أشد المحاربين لله ورسوله؛ لذلك ذكر -كما في (3/724)-: “أن ناقض العهد والمرتد المؤذي لا ريب أنه محارب لله ورسوله فإن حقيقة نقض العهد محاربة المسلمين ومحاربة المسلمين محاربة لله ورسوله وهو أولى بهذا الاسم من قاطع الطريق ونحوه؛ لأن ذلك مسلم لكن لما حارب المسلمين على الدنيا كان محاربًا لله ورسوله فالذي يحاربهم على الدين أولى أن يكون محاربًا لله ورسوله”.
وذكر أيضًا في موطن آخر قبله: “أن ناقض العهد بسبِّ النبي صلى الله عليه وسلم ونحوه حاله أغلظ من حال الحربي الأصلي وخروجه عما عاهدنا عليه بالطعن في الدين وأذى الله ورسوله ومثل هذا يجب أن يعاقب عقوبة يزجر أمثاله عن مثل حاله والدليل عليه قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ} فأمر الله رسوله إذا صادف الناكثين بالعهد في الحرب أن يشرد بهم غيرهم من الكفار بأن يفعل بهم ما يتفرق به أولئك وقال تعالى: {أَلا تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَأُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} فحض على قتال من نكث اليمين وهم بإخراج الرسول وبدأ بنقض العهد ومعلوم أن من سب الرسول صلى الله عليه وسلم فقد فعل ما هو أعظم من الهم بإخراج الرسول وبدئنا أول مرة ثم قال تعالى: {قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ} فعلم أن تعذيب هؤلاء وإخزاءهم ونصر المؤمنين عليهم وشفاء صدورهم بالانتقام منهم وذهاب غيظ قلوبهم مما آذوهم به أمر مقصود للشارع مطلوب في الدين ومعلوم أن هذا المقصود لا يحصل ممن سب النبي صلى الله عليه وسلم وآذى الله تعالى ورسوله وعباده المؤمنين إلا بقتله لا يحصل بمجرد استرقاقه ولا بالمن عليه والمفادة به”.
وذكر في الطريقة الخامسة والعشرين (3/856): “أن قتل الساب قتلٌ تعلَّق بالنبي صلى الله عليه وسلم فلم يسقط بإسلام الساب كما لو قتل نبيًّا، وذلك أن المسلم أو المعاهَد إذا قتل نبيًّا ثم أسلم بعد ذلك لم يسقط عنه القتل”.
وأجاب عن شبهة سقوط القتل المتعلق بالرسالة بإسلام الذمي السابّ، فقال في (3/932): “وإن سلمنا سقوط الحق المتعلق بالكفر بالرسالة لكن لم يسقط الحق المتعلق بشتم الرسول وسبه، فإن هذه جناية زائدة على نفس الرسول مع التزام تركها، فإن الذمي ملتزم لنا أن لا يظهر السب وليس ملتزمًا لنا أن لا يكفر به، فكيف يجعل ما التزم تركه من جنس ما قرَّرناه عليه؟”.
وقال أيضًا كما في (ص242/ط محيي الدين): “فإن قيل: أهل الذمة قد أقررناهم على دينهم ومن دينهم استحلال سبِّ النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا قالوا ذلك لم يقولوا غير ما أقررناهم عليه وهذه نكتة المخالف.
قلنا: ومن دينهم استحلال قتال المسلمين وأخذ أموالهم ومحاربتهم بكل طريق ومع هذا فليس لهم أن يفعلوا ذلك بعد العهد، ومتى فعلوه نقضوا العهد وذلك لأنا وإن كنا نقرهم على أن يعتقدوا ما يعتقدونه ويخفوا ما يخفونه فلم نقرهم على أن يظهروا ذلك ويتكلموا به بين المسلمين ونحن لا نقول بنقض عهد الساب حتى نسمعه يقول ذلك أو يشهد به المسلمون ومتى حصل ذلك كان قد أظهره وأعلنه”.
وقال في (ص535/ط محيي الدين): “وكذلك اختلف أصحاب الشافعي في السب الذي ينتقض به عهد الذمي ويقتل به إذا قلنا بذلك على الوجهين: أحدهما: ينتقض بمطلق السب لنبينا والقدح في ديننا إذا أظهروه، وإن كانوا يعتقدون ذلك دينًا، وهذا قول أكثرهم والثاني: أنهم إذا ذكروه بما يعتقدونه فيه دينا من أنه ليس برسول والقرآن ليس بكلام الله فهو كإظهارهم قولهم في المسيح ومعتقدهم في التثليث قالوا: وهذا لا ينقض العهد بلا تردد بل يعزرون على إظهاره وأما ما ذكروه بما لا يعتقدونه دينًا كالطعن في نسبه فهو الذي قيل فيه: ينقض العهد، وهذا اختيار الصيدلاني وأبي المعالي وغيرهما.
وحجة من فرق بين ما يعتقدونه فيه دينًا، وما لا يعتقدونه، كما اختاره بعض المالكية وبعض الشافعية أنهم قد أُقروا على دينهم الذي يعتقدونه لكن منعوا من إظهاره فإذا أظهروه كان كما لو أظهروا سائر المناكير التي هي من دينهم كالخمر والخنزير والصليب ورفع الصوت بكتابهم ونحو ذلك وهذا إنما يستحقون عليه العقوبة والنكال بما دون القتل.
يؤيد ذلك أن إظهار معتقدهم في الرسول ليس بأعظم من إظهار معتقدهم في الله وقد علم هؤلاء أن إظهار معتقدهم لا يوجب القتل واستبعدوا أن ينتقض عهدهم بإظهار معتقدهم إذا لم يكن مذكورًا في الشرط وهذا بخلاف ما إذا سبُّوه بما لا يعتقدونه دينًا فإنا لم نقرهم على ذلك ظاهرًا ولا باطنًا وليس هو من دينهم فصار بمنزلة الزنا والسرقة وقطع الطريق وهذا القول مقارب لقول الكوفيين وقد ظن من سلكه أنه خلص بذلك من سؤالهم، وليس الأمر كما اعتقده، فإن الأدلة التي ذكرناها من الكتاب والسنة والإجماع والاعتبار كلها تدلُّ على السب بما يعتقده فيه دينًا وما لا يعتقده فيه دينًا، وأن مطلق السب موجب للقتل ومن تأمل كل دليل بانفراده لم يخف عليه أنها جميعًا تدل على السبِّ المعتقد دينًا، كما تدل على السب الذي لا يعتقده دينًا، ومنها ما هو نصٌّ في السبِّ الذي يعتقد دينًا بل أكثرها كذلك، فإن الذين كانوا يهجُونه من الكفار الذين أهدر دماءهم لم يكونوا يهجونه إلا بما يعتقدونه دينًا مثل نسبته إلى الكذب والسحر وذمّ دينه ومن اتبعه وتنفير الناس عنه إلى غير ذلك من الأمور، فأما الطعن في نسبه أو خلقه أو أمانته أو وفائه أو صدقه في غير دعوى الرسالة فلم يكن أحدًا يتعرض لذلك في غالب الأمر، ولا يتمكن من ذلك، ولا يصدقه أحد في ذلك لا مسلم ولا كافر لظهور كذبه”.
وقال تقي الدين علي بن عبدالكافي السّبكي (ت 756) في “السيف المسلول على من سبّ الرسول” (ص346): “ولأن السب بالقذف ونحوه إنما أوجب القتل لكونه طعنًا في النبوة ووسيلة إليها، وإذا كانت الوسيلة توجب انتقاض العهد فالمقصد أولى.
ولو لم نقتلهم بما يعتقدونه لما أمكن القتل بالسب أصلاً، لأنهم يمكنهم دعواه في كل سب أنه معتقدهم.
وملاحظة الفرق بين ما يعتقدونه وغيره يجر إلى موافقة أهل الرأي في أن العهد لا ينتقض بشيء من السبِّ، فالأولى موافقة الجمهور والتسوية بين ما يعتقدونه وغيره، لكن بشرط أن يسمى سبًّا، وهو أمر يرجع فيه إلى العرف، فإن كل ما ليس له حدٌّ في الشرع ولا في اللُّغة يرجع فيه إلى العرف والعادة، فما عدَه أهل العرف سبًّا قلنا هو سبٌّ، وما لا فلا”.
وذكر في (ص245): “أن الكافر الموادع إذا قُتِل بأذاه للنبي صلى الله عليه وسلم، فلأن يُقتَل الكافر الذمِّي بذلك أولى؛ لأن الذمِّي التزم أحكام الإسلام، والموادع لم يلتزم”.
- تفريعة في اشتراط الاستحلال في السبِّ المكفِّر:
سبُّ الله عز وجل وسبُّ رسوله صلى الله عليه وسلم وسبُّ دين الإسلام وسبُّ كتاب الله عز وجل –كل واحد من هذه الأفراد- كفرٌ مستقل لذاته لا يشترط فيه الاستحلال، إنما اشترط الاستحلال الجهمية والمرجئة.
ونقل شيخ الإسلام –رحمه الله- في (3/957) (ص515/ط محيي الدين) قول أبي يعلى في “المعتمد في أصول الدين” –ولعله الكبير، وطبع مختصره-: “وإذا حكمنا بكفره فإنما نحكم به في ظاهر الحكم فأما في الباطن فإن كان صادقًا فيما قال فهو مسلم كما قلنا في الزنديق: لا تقبل توبته في ظاهر الحكم”.
ثم قال: “وذكر القاضي عن الفقهاء أن سابَّ النبي صلى الله عليه وسلم إن كان مستحلاً كفر وإن لم يكن مستحلاً فسق ولم يكفر كسابِّ الصحابة”.
ثم ردَّ عليه قائلاً: “وهذا موضع لا بد من تحريره، ويجب أن يعلم أن القول بأن كفر الساب في نفس الأمر إنما هو لاستحلاله السب زلة منكرة وهفوة عظيمة، ويرحم الله القاضي أبا يعلي قد ذكر في غير موضع من كتبه ما يناقض ما قاله هنا وإنما وقع من وقع في هذه المهواة ما تلقوه من كلام طائفة من متأخري المتكلمين وهم الجهمية الإناث الذين ذهبوا مذهب الجهمية الأولى في أن الإيمان هو مجرد التصديق الذي في القلب وإن لم يقترن به قول اللسان ولم يقتض عملا في القلب ولا في الجوارح”.
ثم قال في (3/964): “وإذا تبين أن مذهب سلف الأمة ومن اتبعهم من الخلف أن هذه المقالة في نفسها كفر استحلها صاحبها أو لم يستحلها فالدليل على ذلك جميع ما قدمناه في المسألة الأولى من الدليل على كفر الساب مثل قوله تعالى: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ} وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} وقوله تعالى: {لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ}…”.
وقال محمد هاشم بن عبدالغفور السندي التّتوي الحنفي في “السيف الجلي على سابِّ النبي” (ص173): “اعلم أنه ذكر الفاضل الجلبي في “حاشية شرح الوقاية” أنه اجتمعت الأمّة على أن استخفاف النبي صلى الله عليه وسلم أو أي نبي من الأنبياء كفرٌ، سواء فعله فاعل ذلك استحلالاً، أم فعله معتقدًا الحرمة، ليس للعلماء خلافٌ في ذلك والذين نقلوا الإجماع فيه، وفي تفاصيله أكثر من أن يُحصَوا منهم إمام الحرمين وغيره”.اهـ
- مبحث في حكم قيام آحاد المسلمين بقتل السابّ:
ذكر تقي الدين علي بن عبدالكافي السّبكي (ت 756) في “السيف المسلول على من سبّ الرسول” (ص287): “أن الصحابة كانوا إذا سمعوا من يسبُّه صلى الله عليه وسلم قتلوه وإن كان قريبًا، فيقرُّهم صلى الله عليه وسلم على ذلك ولا ينكره؛ بل يرضاه، وربما سمَّى من فعل ذلك ناصر الله ورسوله”.
قلت: وقد يُفهَم من هذا الكلام أنه يقوم بذلك آحاد المسلمين دون الرجوع إلى ولي الأمر!
لكن هذا الحكم بالقتل على الساب إنما هو مناط بولي الأمر المسلم ذات السلطان، ليس بآحاد المسلمين.
قال شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي (ت 684) في “الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام” (ص92/ط دار الأمان الرباط):
“وأما تصرُّفه صلى الله عليه وسلم بالإِمامةِ فهو وصفٌ زائد على النبوَّةِ والرسالة والفُتيا والقضاءِ؛ لأنَ الإِمام هو الذي فُوّضَتْ إِليه السياسة العامة في الخلائق، وضَبْطُ مَعاقِدِ المصالح، ودَرْءُ المفاسد، وقَمْعُ الجُنَاة، وقَتْلُ الطُّغَاة، وتوطينُ العِبَاد في البلاد، إِلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس.
وهذا ليس داخلاً في مفهوم الفُتيا ولا الحُكمِ ولا الرسالةِ ولا النبوَّة، لتحققِ الفُتيا بمجرد الِإخبار عن حُكمِ الله تعالى بمقتضى الأدلة”، ثم قال: “فما فَعَله -عليه السلام- بطريق الإِمامةِ كقسمةِ الغنائم، وتفريقِ أموال بيت المال على المصالح، وإقامةِ الحدود، وترتيبِ الجيوش، وقتالِ البُغَاة، وتوزيع الإِقطاعات في القُرى والمعادن، ونحو ذلك؛ فلا يجوز لأحدٍ الإِقدامُ عليه إلَّا بإذنِ إِمامِ الوقت الحاضر؛ لأنه – صلى الله عليه وسلم – إِنما فَعَله بطريقِ الإمامة، وما استُبِيحَ إِلَّا بإذنه، فكان ذلك شرعاً مقرراً لقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}”.اهـ
قلت: وذكر أبو القاسم أحمد بن منصور بن عبدالجبار السمعاني (ت 534) في “النكت في المختلف في الخلاف بين الشافعية والحنفية” (2/479) مسألة حق السيد في إقامة الحد على مملوكه، وانتصر لقول الشافعية في إثبات هذا الحق له، وعلّل هذا بقوله: “دليلنا: أنَّا أجمعنا على أن السلطان يملك إقامة الحد، فكذلك السيد وجب أن يملك”، والشاهد نقله للإجماع على حق السلطان في إقامة الحدود.
وأما المسلمون الذين يعيشون تحت ولاية الكفَّار في بلاد الكفر، وهم مستضعفون، كيف يناطُ بهم هذا الحكم؟!
أخرج البخاري (4566) من حديث أسامة بن زيد: “وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ يَعْفُونَ عَنِ المُشْرِكِينَ، وَأَهْلِ الكِتَابِ، كَمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ، وَيَصْبِرُونَ عَلَى الأَذَى، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا} [آل عمران: 186] الآيَةَ، وَقَالَ اللَّهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ} [البقرة: 109] إِلَى آخِرِ الآيَةِ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَأَوَّلُ العَفْوَ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ بِهِ، حَتَّى أَذِنَ اللَّهُ فِيهِمْ، فَلَمَّا غَزَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَدْرًا، فَقَتَلَ اللَّهُ بِهِ صَنَادِيدَ كُفَّارِ قُرَيْشٍ، قَالَ ابْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُشْرِكِينَ وَعَبَدَةِ الأَوْثَانِ: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَوَجَّهَ، فَبَايَعُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الإِسْلاَمِ فَأَسْلَمُوا”.
قال شيخ الإسلام في الصارم (ص218/ط محيي الدين): “وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله تعالى ويصبرون على الأذى قال الله تعالى: {وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} وقال الله عز وجل: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}…”، ثم قال: ” وجملة ذلك أنه لما نزلت براءة أمر أن يبتدئ جميع الكفار بالقتال وثنيهم وكتابيهم سواء كفوا عنه أو لم يكفوا وإن ينبذ إليهم تلك العهود المطلقة التي كانت بينه وبينهم وقيل له فيها: {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِم} بعد أن كان قد قيل له: {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُم}… فكان ذلك عاقبة الصبر والتقوى اللذين أمرهم بهما في أول الأمر وكان إذ ذاك لا يؤخذ من أحد من اليهود الذين بالمدينة ولا غيرهم جزية وصارت تلك الآيات في حق كل مؤمن مستضعف لا يمكنه نصر الله ورسوله بيده ولا بلسانه فينتصر بما يقدر عليه من القلب ونحوه وصارت آية الصغار على المعاهدين في حقِّ كل مؤمن قوي يقدر على نصر الله ورسوله بيده أو لسانه وبهذه الآية ونحوها كان المسلمون يعملون في آخر عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى عهده خلفائه الراشدين، وكذلك هو إلى قيام الساعة لا تزال طائفة من هذه الأمة قائمين على الحق ينصرون الله ورسوله النصر التام فمن كان من المؤمنين بأرض هو فيها مستضعف أو في وقت هو فيه مستضعف فليعمل بآية الصبر والصفح عمن يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين وأما أهل القوة، فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”.اهـ
والله المستعان وعليه التكلان.
وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلّم.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
ليلة الأحد 22 ربيع الأول 1442
http://abuabdelaala.net/wp-content/uploads/2020/11/بيان_حكم_المتدنس_بالسبِّ_والتحقير-.pdf
