جهل ميزو والأبراشي بأبجديات الإسلام وطعنهما في أحمد شاكر المحدِّث الإمام
جهل ميزو والأبراشي بأبجديات الإسلام
وطعنهما في أحمد شاكر المحدِّث الإمام
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتّبع هداه،
أما بعد،
فقد اطّلعت على اللقاء الذي عقده الإعلامي “وائل الأبراشي” مع المدعو “محمد عبدالله نصر” المشهور بـ “ميزو الأزهري”
حول قضية قيام خارجي جاهل بذبح نصراني شارب للخمر، وقد وجدت أن كليهما يجهلان أبجديات الإسلام، ولم يكفهما هذا، بل تعدى كلاهما على الإمام المحدّث أحمد شاكر.
وتنحصر الشبهات التي تلبسَا بها فيما يلي:
1⃣ – عدم كفر النصارى.
2⃣ – تحريم تهنئة النصارى في أعيادهم.
3⃣ – رسالة الإمام المحدِّث أحمد شاكر في “حكم مدمني الخمر”.
وقد ركَّبا هذه الشبهات تركيبًا عجيبًا جعلها ظلمات بعضها فوق بعض؛ حيث اعتبرَا أن اعتقاد كفر النصارى، وعدم تهنئتهم في أعيادهم يترتب عليه استباحة دمائهم.
فأقول ابتداءً: إن كفر النصارى أمر معلومٌ من الدين بالضرورة لا يجهله أطفال المسلمين في الشوارع، ولا يجهله كلُّ عربيٍّ يقرأ كتاب الله عز وجل، وإليك بعض الآيات الدالة على هذا الأمر:
قال الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقال الله عز وجل: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
وقال سبحانه: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
قلت: فإن كان الإبراشي وميزو لا يؤمنان بهذه الآيات، فليصرحا بذلك، وليقولا: إنَّا نكذِّب بالقرآن، وبهذا يصرِّحان بالانسلاخ من الإسلام.
وإن كانا لا يفهمَا الآيات، فلينادَى بجهلهما المطبق بأبجديات الإسلام على رءوس الأشهاد.
والشبهة الثانية هي قرينة الأولى، حيث إنه مَن لم يعتقد كفر النصارى، فلا يجد حرجًا أن يهنئهم في أعيادهم الشركية الوثنية.
فهل نهنئ النصارى باحتفالهم بولادة الإله من رحم امرأة ؟!
فأقول للإبراشي وميزو: ما حكمكما على مَن يقول إن لله ولد وزوجة، ويعتقد أن الإله صُلِب ودُفِن ؟!!
فإن قالا: هذا كفرٌ بالله وشرك عظيم، فقد أقاما على أنفسهما الحجة واعترفَا بكفر النصارى.
وإن قالا: هذا مذهب محترم، والنصارى لهم الحرية أن يعتقدوا ما شاءوا، ولا حرج أن يكون لله ولد وزوجة؛ فقد كفرَا؛ لتكذيبهما بصريح القرآن!!
وهما يظنان كما يظنّ غيرهما من الأزاهرة والموّكلون بالفتوى أن هذا الكلام يبعث على رضا النصارى وتهدئتهم، وهذا خلاف ما أخبرنا به ربُّنا سبحانه في قوله: {وَلَنْ تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ}.
يقول شيخ المفسِّرين الإمام محمد بن جرير ين يزيد الطَّبري –رحمه الله- في تفسيره “جامع البيان في تأويل آي القرآن” (2/484) في تفسير هذه الآية: “وَلَيْسَتِ الْيَهُودُ يَا مُحَمَّدُ وَلَا النَّصَارَى بِرَاضِيَةٍ عَنْكَ أَبَدًا، فَدَعْ طَلَبَ مَا يُرْضِيهِمْ وَيُوَافِقُهُمْ، وَأَقْبِلْ عَلَى طَلَبِ رِضًا اللَّهِ فِي دُعَائِهِمْ إِلَى مَا بَعَثَكَ اللَّهُ بِهِ مِنَ الْحَقِّ. فَإِنَّ الَّذِي تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ لَهُوَ السَّبِيلُ إِلَى الِاجْتِمَاعِ فِيهِ مَعَكَ عَلَى الْأُلْفَةِ وَالدِّينِ الْقَيِّمِ. وَلَا سَبِيلَ لَكَ إِلَى إِرْضَائِهِمْ بِاتِّبَاعِ مِلَّتِهِمْ؛ لِأَنَّ الْيَهُودِيَّةَ ضِدَّ النَّصْرَانِيَّةِ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ ضِدُّ الْيَهُودِيَّةِ، وَلَا تَجْتَمِعُ النَّصْرَانِيَّةُ وَالْيَهُودِيَّةُ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى لَا تَجْتَمِعُ عَلَى الرِّضَا بِكَ، إِلَّا أَنْ تَكُونَ يَهُودِيًّا نَصْرَانِيًّا، وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَكُونُ مِنْكَ أَبَدًا، لِأَنَّكَ شَخْصٌ وَاحِدٌ، وَلَنْ يَجْتَمِعَ فِيكَ دِينَانِ مُتَضَادَّانِ فِي حَالٍ وَاحِدَةٍ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ إِلَى اجْتِمَاعِهِمَا فِيكَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ سَبِيلٌ، لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَى إِرْضَاءِ الْفَرِيقَيْنِ سَبِيلٌ. وَإِذَا لَمْ يَكُنْ لَكَ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلٌ، فَالْزَمْ هُدَى اللَّهِ الَّذِي لِجَمْعِ الْخَلْقِ إِلَى الْأُلْفَةِ عَلَيْهِ سَبِيلٌ”.
قلت: وكذلك يظنون أن التصريح بعدم كفر النصارى وتجويز تهنئتهم في أعيادهم الشركية يقضي على غلو الخوارج من هذه الأحزاب في استحلال دماء المستأمنين والمعاهدين من النصارى الذين يعيشون على أرض مصر بعهد وأمان.
وهذا الظنُّ ظنٌّ خاطئ؛ لأن الواقع يدل على أن هذا الكلام لا يزيد هؤلاء الخوارج إلا غلوًّا، ولا يزيد النار إلا اشتعالاً، بل تجعل لهم مسوِّغًا –على حسب فهمهم القاصر- لتكفير الجهات الرسمية للفتوى وتكفير الحكَّام؛ اتّهامًا لهم بموالاة النصارى.
ولذلك لا يزداد الاختلال الأمني إلا اختلالاً، وتشتعل نار الفتنة بين المسلمين والنصارى أكثر، ويزداد عنف الخوارج ضد النصارى ردًّا على هذه الفتاوى.
وقد حاولت علاج هذه المعضلة من قبل في خلال ثلاث خطب جمعة عنونت لها بـ: “اعتقاد كفر النصارى لا ينافي أمن الوطن”، بيَّنت فيها أن الحفاظ على أمن مصر لن يكون بتصحيح معتقدات المشركين من النصارى وغيرهم، أو بمداهنتهم بالمشاركة في أعيادهم الوثنية وتهنئتهم بها.
وإنما يكون ببيان الحكم الشرعي في الاعتداء على أهل الكتاب المستأمنين والمعاهدين، نحو ما جاء في حديث عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا تُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا»، أخرجه البخاري (3166)، وبوَّب عليه: “بَابُ إِثْمِ مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا بِغَيْرِ جُرْمٍ”.
وأن يذكَّروا بوصية عمر بن الخطاب رضي الله عنه للخليفة من بعده بما يلي: “أُوصِي الخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِي بِالْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأَنْصَارِ خَيْرًا الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ وَأَنْ لاَ يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ”، أخرجه البخاري (1392).
والذمة هي العهد، والمراد أن عمر أوصّى الخليفة بعده بأهل الذمة من أهل الكتاب أن يوفَى لهم بالعهد، بأن يحافَظ على أرواحهم، وأن لا تستحل أموالهم إلا ما أحلّه الشرع منها من قيام الخليفة بأخذ الجزية منهم.
وأما دعواهما على العلامة المحدث أحمد شاكر، فهي نابعة من جهل مركّب.
فإن العلامة أحمد شاكر –رحمه الله- يناقش في رسالته “القول الفصل في حكم مدمني الخمر” حكم قيام ولي الأمر –أي الحاكم- في تنفيذ الحكم بالقتل على مدمن الخمر، أي مَن تكرر شربه للخمر، وفي كل مرة يقام عليه حدُّ شارب الخمر بالجلد أربعين أو ثمانين، فإذا أتِي به في الرابعة، فإن لولي الأمر أن يقتله للأحاديث الواردة في المسألة، وهذا نصُّها من سنن أبي داود والتي أخرجها تحت بَاب إِذَا تَتَابَعَ فِي شُرْبِ الْخَمْرِ:
أخرج برقم (4482) من حديث مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا شَرِبُوا الْخَمْرَ فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِنْ شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِنْ شَرِبُوا فَاجْلِدُوهُمْ، ثُمَّ إِنْ شَرِبُوا فَاقْتُلُوهُمْ».
وأخرج بعده برقم (4484) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا سَكَرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ سَكَرَ فَاجْلِدُوهُ، ثُمَّ إِنْ سَكَرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ الرَّابِعَةَ فَاقْتُلُوهُ».
قلت: وهذه أحاديث صحيحة الإسناد، لكن اختلف العلماء قديمًا في فهمها، فذهب البعض إلى أن الحكم بالقتل في هذا الحديث منسوخ، وهذا اختيار الترمذي.
وقال أَبُو حَاتِمٍ ابن حبان: الْعِلَّةُ الْمَعْلُومَةُ فِي هَذَا الْخَبَرِ يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ: فَإِنْ عَادَ عَلَى أَنْ لَا يقبل تحريم الله، فاقتلوه.
وقال البغوي في شرح السنة (10/334): “قَالَ الْخَطَّابِيُّ: قَدْ يَرِدُ الأَمْرُ بِالْوَعِيدِ، وَلا يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ الْفِعْلِ، وَإِنَّمَا يُقْصَدُ بِهِ الرَّدْعُ، وَالتَّحْذِيرُ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ قَتَلَ عَبْدَهُ قَتَلْنَاهُ»، وَهُوَ لَوْ قَتَلَ عَبْدَ نَفْسِهِ لَمْ يُقْتَلْ بِهِ فِي قَوْلِ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ”.
وقال العلامة أحمد شاكر: “وهذه الأحاديث في الأمر بقتل شارب الخمر في الرابعة إذا أقيم عليه الحد ثلاث مرات فلم يرتدع ــ تقطع في مجموعها بثبوت هذا الحكم و صحة صدوره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما لا يدع شكًّا للعارف بعلوم الحديث وطرق الرواية، وأكثر أسانيدها صحاح، والشك النادر من بعض الرواة بين الثالثة أو الرابعة أو غيرهما لا يؤثر في صحته، ولا في أن الحكم بالقتل إنما هو في الرابعة ، كما هو بيّن واضح”.
قلت: ومهما كان القول الراجح في المسألة، فإن أحمد شاكر ليس كلامه موّجهًا إلى آحاد الناس، وهذا أمر بديهي، لكن أصحاب الهوى يريدون الإساءة إلى علماء السنة بكل السبل.
وانظر إلى الحكمة السامية التي بيّنها العلامة أحمد شاكر من هذا التشريع على التسليم بأنه محكم غير منسوخ؛ حيث قال في أوَّل مقدمته على هذا الجزء (ص3): “هذا تحقيق وافٍ –فيما أرى- لحديث الأمر بقتل شارب الخمر في الرابعة؛ يتبين منه القارئ أن هذا الأمر محكم ثابت لم يُنسَخ، وأنه هو العلاج الصحيح للإدمان الذي يكاد يقضي على الأمم الإسلامية، ويكاد يذهب بتشريعهم السامي وآداب الإسلام العالية النقية”.اهـ
قلت: فأيَّة دعوة إلى الإرهاب في هذا الكلام العلمي الرصين؟!
لكن –والله- إن ميزو وأمثاله هم دعاة الإرهاب، ولا يُستبعَد أن يكونوا مأجورين من أعداء بلاد الإسلام؛ لإشاعة الفتنة فيها بهذه الأساليب الفاجرة في التشكيك في أمانة علماء الأمّة حاملي منهاج السلف الصالح !!
فهل الإبراشي وميزو يريدان انتشار إدمان المسكرات والمخدرات في المجتمع، ولا يريدان رادعًا شرعيًّا لهذا الإدمان؟!
إن المنظمات العالمية الكافرة أصدرت تشريعات وضعية شديدة محاولةً منها لإيقاف موجة هذا الإدمان الذي دمَّر عقول الملايين على مستوى العالم، فهل كانت هذه المنظمات تدعو إلى الإرهاب؟ وهل تمكَّنوا أن يوقفوا هذه الموجة العارمة بتشريعاتهم الوضعية؟!
وجهل هذا المتعالم –ميزو- أن أحمد شاكر هو أول مَن وقف ضد إرهاب الإخوان المسلمين في مصر بمقالات قوية واضحة زلزلت أركان الإخوان، منها مقاله: “الإيمان قيد الفتك” في “الأساس” بتاريخ 2/1/1949، والذي كتبه عقب قتل الإخوان للنقراشي باشا – رئيس الوزراء المصري السابق-، وفيه يحكم حكمًا شديدًا على منفذي عمليات الاغتيال السياسي من الإخوان، وهذا نصُّه:
“روَّع العالم الإسلامي والعالم العربي بل كثير من الأقطار غيرهما باغتيال الرجل، الرجل بمعنى الكلمة النقراشي -الشهيد غفر الله له، وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين-، وقد سبقت ذلك أحداث قدّم بعضها للقضاء([1])، وقال فيه كلمته وما أنا الآن بصدد نقد الأحكام، ولكني كنت أقرأ كما يقرأ غيري الكلام في الجرائم السياسية وأتساءل: أنحن في بلد فيه مسلمون؟ وقد رأيت أن واجبًا علي أن أبين هذا الأمر من الوجهة الإسلامية الصحيحة حتى لا يكون هناك عذر لمعتذر، ولعلَّ الله يهدي بعض هؤلاء الخوارج المجرمين فيرجعوا إلى دينهم قبل أن لا يكون سبيل إلى الرجوع، وما ندري من ذا بعد النقراشي في قائمة هؤلاء الناس.
إن الله سبحانه توعد أشد الوعيد على قتل النفس الحرام في غير آية من كتابه: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء:93]، وهذا من بديهيات الإسلام التي يعرفها الجاهل قبل العالم وإنما هذا في القتل العمد الذي يكون بين الناس في الحوادث والسرقات وغيرها القاتل يقتل وهو يعلم أنه يرتكب وزرًا كبيرًا.
أما القتل السياسي الذي قرأنا جدالاً طويلاً حوله فذاك شأنه أعظم وذلك شيء آخر.
القاتل السياسي يقتل مطمئن النفس راضي القلب يعتقد أنه يفعل خيرًا فإنه يعتقد بما بثَّ فيه مغالطات أنه يفعل عملاً حلالاً جائزًا إن لم يعتقد أنه يقوم بواجب إسلامي قصَّر فيه غيره، فهذا مرتد خارج عن الإسلام، يجب أن يعامل معاملة المرتدين، وأن تطبق عليه أحكامهم في الشرائع، وفي القانون هم الخوارج كالخوارج القدماء الذين كانوا يقتلون أصحاب رسول الله ويدعون من اعترف على نفسه بالكفر، وكان ظاهرهم كظاهر هؤلاء الخوارج بل خيرًا منه، وقد وصفهم رسول الله بالوحي قبل أن يراهم، وقال لأصحابه: “يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، وصيامه مع صيامهم، يقرؤون القرآن لا يجاوز تراقيهم، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية” (حديث أبي سعيد الخدري في صحيح مسلم ج1 ص292-293).
وقال أيضًا: “سيخرج في آخر الزمان قوم أحداث الأسنان، سفهاء الأحلام يقولون من قول خير البرية يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم يَمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية؛ فإذا لقيتموهم فاقتلوهم، فإن في قتلهم أجرًا لمن قتلهم عند الله يوم القيامة” (حديث علي بن أبي طالب في صحيح مسلم: ج1 ص293).
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة متواترة، وبديهيات الإسلام تقطع بأن من استحل الدم الحرام فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه.
فهذا حكم القتل السياسي هو أشد من القتل العمد الذي يكون بين الناس، والقاتل قد يعفو الله عنه بفضله وقد يجعل القصاص منه كفارة لذنبه بفضله ورحمته، وأما القاتل السياسي فهو مصرٌّ على ما فعل إلى آخر لحظة من حياته يفخر به ويظن أنه فعل فعل الأبطال، وهناك حديث آخر نصٌّ في القتل السياسي لا يحتمل تأويلاً فقد كان بين الزبير بن العوام وبين علي بن أبي طالب ما كان من الخصومة السياسية التي انتهت بوقعة الجمل، فجاء رجل إلى الزبير بن العوام فقال: اقتل لك عليًّا؟ قال: لا وكيف تقتله ومعه الجنود؟ قال: ألحق به فأفتك به، قال: لا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن الإيمان قيد الفتك([2])، لا يفتك مؤمن؟!!”.
حديث الزبير بن العوام رقم 1429 من مسند الإمام أحمد بن حنبل: بتحقيقنا.
أي أن الإيمان يقيد المؤمن عن أن يتردى في هوة الردة، فإن فعل لم يكن مؤمنًا([3]).
أما النقراشي فقد أكرمه الله بالشهادة له فضل الشهداء عند الله وكرامتهم، وقد مات ميتة كان يتمناها كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم([4])، تمناها عمر بن الخطاب حتى نالها فكان له عند الله المقام العظيم والدرجات العلى، وإنما الإثم والخزي على هؤلاء الخوارج القَتَلة مُستحلي الدماء([5])، وعلى مَنْ يدافع عنهم([6])، ويريد أن تتردى بلادنا في الهوة التي تردت فيها أوربا بإباحة القتل السياسي أو تخفيف عقوبته؛ فإنهم لا يعلمون ما يفعلون ولا أريد أن أتهمهم بأنهم يعرفون ويريدون، والهدى هدى الله”.اهـ مقال العلامة أحمد شاكر.
قلت: وقد علَّق محمد الغزالي على هذه الفتوى في مقدِّمة كتابه “من هنا نعلم” (ص12)([7]) قائلاً: “إننا نعرف أن الشيخ أحمد شاكر القاضي بالمحاكم الشرعية أصدر فتوى بأن الإخوان المسلمين كفَّار!! وأن من قتلهم كان أولى بالله منهم (كذا) ([8])، والرجل الذي يصدر هذه الفتوى كان أن ينبغي أن يطرد من زمرة العلماء، ومع ذلك فلا نحسب أحدًا أجرى معه تحقيقًا”.اهـ
قلت: هكذا حكم الغزالي على العلامة المحدث أحمد شاكر، وهو الأولى بهذا الحكم منه لجنايته الواضحة على السنة وأهلها كما تراه واضحًا في آخر كتبه الذي سماه “السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث”.
والعجيب أن الغزالي نفسه لما بان المكتوم من خطط الإخوان السرية وناله منها شيئًا من الأذى قلب رأس المجن، وكاد بلسان مقاله أن يوافق الشيخ أحمد شاكر في حكمه على هذا الحزب الضال؛ فألَّف الغزالي كتابه “من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث”، الذي فضح فيه خبايا الإخوان وأظهر سوأتهم القبيحة التي تفضح خبئ مكرهم السيئ.
وفي تقرير رفعه العلامة أحمد شاكر إلى الملك عبد العزيز آل سعود -رحمه الله- سمَّاه “تقرير عن شئون التعليم والقضاء” (ص48) نقل كلامًا لأحد رموز الأحزاب السياسية ورد في جريدة المصري، هذا نصُّه: “ولقد حاول البعض أخيرًا خلط الدين بالسياسة ودعا إلى جعل القرآن الكريم أساسًا للتشريع، فما جنينا من هذه التجربة غير الشر المستطير الذي نعاني بأسه حتى الآن”.
قال العلامة أحمد شاكر معلِّقًا على هذا الكلام: “يريد سعادته حركة الشيخ حسن البنا وإخوانه الـمسلمين الذين قلبوا الدعوة الإسلامية إلى دعوة إجرامية هدَّامة ينفق عليها الشيوعيون واليهود، كمـا نعلم ذلك علم اليقين”.
قلت: فهل يجهل الإبراشي وميزو هذه الكلمات الرائعة لمحدِّث مصر في بيان إرهاب حزب الإخوان؟
أم أنهما يعلمان لكن كتمَا هذا لشيء في نفوسهما من هذا المحدِّث الإمام؟!
وأخيرًا أنصح الإبراشي على وجه الخصوص قائلاً له: اتقِ الله في نفسك أولاً فتعلَّم دينك من مصادره الأصيلة؛ لتنجو أنت أولاً عند الله عز وجل، ثم كي تكون داعية هدى وإصلاح لا داعية إضلال وتخريب للمجتمع.
وعلى الله قصد السبيل.
وصلى الله على محمد وعلى آله وأصحابه وسلم.
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
السبت 15 ربيع الآخر 1438
•••••••••
([1]) قال القرضاوي في مذكراته: “وفي اليوم الثامن والعشرين من شهر ديسمبر -أي بعد حلِّ الإخوان بعشرين يومًا- وقع ما حذَّر منه الإمام البنا، فقد أُذيع نبأ اغتيال رئيس الوزراء ووزير الداخلية والحاكم العسكري العام “محمود فهمي باشا النقراشي”، في قلب عرينه في وزارة الداخلية، أُطلقت عليه رصاصات أودت بحياته.
وكان الذي قام بهذا العمل طالبًا بكلية الطب البيطري بجامعة “فؤاد الأول” بالقاهرة، اسمه “عبد المجيد حسن” أحد طلاب الإخوان، ومن أعضاء النظام الخاص، الذي قُبض عليه في الحال، وأودع السجن، وقد ارتكب فعلته، وهو يرتدي زي ضابط شرطة، لهذا لم يُشَك فيه حين دخل وزارة الداخلية، وانتظر رئيس الحكومة، حتى أطلق عليه رصاص مسدسه.
وعُين “إبراهيم باشا عبد الهادي” نائب النقراشي خلفًا له في رئاسة الوزارة، الذي صمَّم على أن يضرب بيد من حديد، وأن ينتقم لسلفه النقراشي.
وقابل بعض شباب الإخوان اغتيال النقراشي بفرحة مشوبة بالحذر؛ لوفاة الرجل الذي ظلمهم وحلَّ جماعتهم، ولكن هل كان في الاغتيال حلٌّ للمشكلة؟ لقد أثبت التاريخ أن الاغتيال السياسي لا يحل مشكلة، وأنه كما قال أحد الساسة للشيخ البنا: “إن ذهب عير فعير في الرباط”، والملاحظ أنه كثيرا ما يكون الخلف أنكى وأقسى من سلفه، وفي هذه القضية كان رد الفعل هو اغتيال حسن البنا؛ ثأرًا للنقراشي؛ فأي خسارة أكبر من فقد حسن البنا ؟!”.اهـ [المصدر: موقع إسلام أون لاين على النت].
([2]) قال ابن الأثير في النهاية (ص691-ط ابن الجوزي): “الفتك: أن يأتي الرجل صاحبه وهو غارٍّ غافل فيشد عليه فيقتله، وأما الغيلة فهو: أن يخدعه ثم يقتله في موضع خفي”.اهـ
([3]) هذا الفهم من العلامة أحمد شاكر رحمه الله فيه نظر حيث إن هذا الحديث يجري على منوال حديث: “لا إيمان لمن لا أمانة له”، وحديث: “لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن”، ونحوهما من الأحاديث، والتي لا تعني نفي أصل الإيمان إنما المنفي هو الإيمان الواجب.
والقول بتكفير الخارجي الذي يقتل عصاة المسلمين قول قديم، قال به البعض لكن كما قال الحافظ الفتح (12/300): “وذهب أكثر أهل الأصول من أهل السنة إلى أن الخوارج فسَّاق، وأن حكم الإسلام يجري عليهم لتلفظهم بالشهادتين ومواظبتهم على أركان الإسلام، وإنما فسقوا بتكفيرهم المسلمين مستندين إلى تأويل فاسد وجرَّهم ذلك إلى استباحة دماء مخالفيهم وأموالهم والشهادة عليهم بالكفر والشرك، وقال الخطَّابي: أجمع علماء المسلمين على أن الخوارج مع ضلالتهم فرقة من فرق المسلمين وأجازوا مناكحتهم وأكل ذبائحهم، وأنهم لا يكفرون متمسكين بأصل الإسلام”.اهـ
وتوقف الإمام أحمد فيهم وسماهم بـ”المارقة”، لما قيل له: أكفارٌ هم؟ قال: هم مارقة مرقوا من الدين، كما في السنة للخلال (111).
([4]) يُحمل هذا الكلام للعلامة أحمد شاكر على الرجاء والتمني والدعاء للنقراشي بنَيْل الشهادة، لا على الجزم له بها؛ بدليل دعائه له في استفتاح المقال: “غفر الله له، وألحقه بالصديقين والشهداء والصالحين”.
([5]) يقصد المنتمين إلى حزب الإخوان الذين يحملون هذا الفكر.
([6]) وكأن هذا الدعاء موجه على أمثال أبي الحسن المصري، وأبي إسحاق الحويني، ومحمد حسَّان، وسلمان العودة، وعائض القرني، ومحمد حسين يعقوب الذين يتحامون في الدفاع عن حزب الإخوان المسلمين –وما تفرع عنه من تنظيمات خارجية نحو: تنظيم القاعدة، والسرورية، والجماعة الإسلامية، وتنظيم داعش- ويصرون على إدخالها في الفرقة الناجية والطائفة المنصورة -أهل السنة والجماعة-، رغم أصولها البدعية الظاهرة التي يدركها كلُّ من كان له نصيب من العلم بالكتاب والسنة، ورغم تصريحات رموزها ودعاتها التي تقطر سمًّا زعافًا وضلالاً باديًا لا يخفى إلا على من أعمى الله بصيرته أو أضله على علم.
فهم بهذا –شاءوا أم أبوا- يسعون لتردي بلاد الإسلام في الهوة السحيقة التي تردت فيها أوروبا بإباحة القتل السياسي، ومن قبل عانت بلاد الإسلام من نحو هذا على أيدي فرق الخوارج عبر القرون السابقة، فصدق عليهم ما قاله بعد العلامة أحمد شاكر: “فإنهم لا يعلمون ما يفعلون، ولا أريد أن أتهمهم بأنهم يعرفون ويريدون، والهدى هدى الله”.
([7]) ط. مكتبة نهضة مصر-إبريل 2006.
([8]) وهذا اعتراف من الغزالي بأن الإخوان هم قَتَلة النقراشي.