سلسلة “إظهار الوجه الحقيقي للأتراك العثمانيين” (2) إبطال كيد الأتراك العثمانيين ضد الإسلام والمسلمين.. (الجزء الثاني)

 

سلسلة “إظهار الوجه الحقيقي للأتراك العثمانيين” (2) 

إبطال كيد الأتراك العثمانيين

ضد الإسلام والمسلمين..

(الجزء الثاني): الأتراك العثمانيون هم أول من طبَّق القوانين الوضعية في بلاد الإسلام

 

بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتبع هداه،

أما بعد، فقد كانت دولة الأتراك المعروفة بالدولة العثمانية وبالاً على المسلمين من عدة جوانب، لكن من أخطر هذه الجوانب الجانب العقدي، ومما يتعلّق بهذا الجانب مسألة تحكيم القوانين الوضعية، فكثير من الناس لا يدري أن الأتراك العثمانيين هم أول من سنّ هذه السنة السيئة  وطبَّق القوانين الوضعية في بلاد الإسلام!

وكان أول من سنَّ هذا الأمر –على خلاف ما يتوقع البعض- هو السلطان محمد الفاتح! حيث أصدر: “قانوننامات الفاتح”.

قال د.صالح سعداوي صالح في كتابه “مصطلحات التاريخ العثماني” (3/1002):

“فاتح قانوننامه لرى = قانوننامات الفاتح FATIHKANUNNAMELERI

هي مجموعة القوانين التي أمر السلطان محمد الفاتح بإعدادها، وهي أقدم القانوننامات المعروفة في التاريخ العثماني وتتضمن التنظيمات والترتيبات المهمة المتعلقة بإدارة دفَّة الأمور في الدولة في المجالات السياسية والمالية والقضائية.

وكان السلطان محمد الفاتح قد كلَّف الصدر الأعظم محمد باشا القرماني بإعادة تنظيم شئون الدولة التي كانت تُدَار حتى ذلك التاريخ بكتب الأوامر (أمر نامه) والفتاوى والفرمانات، وفي هذه التنظيمات جرى الكشف عن العقوبات التي ستُطَبَّق على الزنا والمشاجرات والجنايات والسرقات وما يشبهها من التهم، في حين جرى وبالتفصيل شرح الواجبات والتكاليف الخاصَّة بالرعايا [الفلاحين] وعشائر اليوروك [البدوية]، والضرائب المقرَّرة عليهم، ودرجات وظائف كبار رجال الدولة وأجورهم، وقواعد التشريفات في السراي، واحتفالاته، والمبادئ المتعلِّقة بذلك.

كما تحدثت قانوننامات الفاتح أيضًا عن الأسس والمبادئ التي تُعزِّز الكيان المركزي للدولة، ومن ذلك مثلاً الاعتراف للسلطان بالحقِّ في قتل إخوته بقصد الحيلولة دون ظهور نزاع على الحكم يُزَعْزِعُ استقرار الدولة ووحدة أراضيها، كما تناول نظام الأراضي، فأمر بتحويل أراضي الدولة –التي تحوَّلت لأسباب متعدِّدة إلى أملاك خاصَّة أو أوقاف- إلى تيمارات، وسعى من خلال ذلك إلى تحطيم القوَّة الاقتصادية للأُسَر والسلالات التي قد تشكل تَحَدِّيًا ضد أُسْرة آل عثمان.

وقد أصبحت قانوننامات الفاتح مصدرًا لكل التطبيقات والتنظيمات السياسية والقضائية والمالية التي أجريت بعد ذلك على امتداد التاريخ العثماني” اهـ.

وقال محمد جمال باروت في كتاب “الصراع العثماني الصفوي”(ص33):

“ووفق ما جاء في هذا القانون، فإنه إذا زنى مسلم وثبت عليه الزنا شرعًا، وكان الزاني محصَّنًا أو الزانية محصَّنة؛ فإنه يغرم بقدر معين من الأفجا (نوع من النقود)، حدَّدها القانون نسبيًّا بحسب الدخل المالي للزاني المحصن أو الزانية المحصنة..”.

وقال: “وفي حالة شرب الخمر، كان التسامح القانوني العثماني الكبير معه قد كرَّس تعاطي الخمر في الجيش الانكشاري، وفي الحياة اليومية، فكانت أفراح الجند في أسواق دمشق بفتح رودوس في عام (929ه/1523م) في زمن القانوني مختلطة بالخمر!

وكان من لا يحتفل بهذه المناسبة يتعرَّض للرشق بالخمر.. غير أن لا مشيخة الإسلام ولا فرمانات السلاطين اللاحقة بعد القانوني تمكنت من منع تفشي الخمرة في الجيش الانكشاري، ولا في أوساط كبار الموظفين، فلما افتتح السلطان مراد خان الثالث (1003ه/1595م) عهده بإصدار أمر بمنع الخمرة في الجيش التي تفشت في زمن سلفه سليم الثاني؛ ثار الانكشار عليه؛ فاضطر إلى سحب أمره”.

ويؤكد د. يونس وهبي الأقطوغاني – أستاذ الفقه وأصوله بتركيا- بقوله: “أن الدولة العثمانية خفَّفت العقوبات الشديدة للشريعة الإسلامية: أو بدَّلت عقوبة الزنا وهو الرجم وعقوبة قطع السرقة وهو قطع اليد إلى العقوبات المالية الخفيفة”.

قلت: وهذا يؤكد أن الأتراك العثمانيين بدءوا في سنّ هذه السنة السيئة –وهي الحكم بغير ما أنزل الله- في وقت مبكر من دولتهم إلى أن دخل القرن التاسع عشر الميلادي حتى تحول الأمر بالكلية إلى القانون الوضعي في داخل دولة الخلافة.

قال د. محمد بن موسى الشريف في مقالٍ له بمجلة “المجتمع” (تاريخ 15/5/2017):

“وكان عام (1893) هو العام الفاصل الذي انحرف فيه اتجاه التاريخ، حين تبنت الدولة العثمانية قوانين جديدة مستوردة من البلاد الغربية، ومنذ ذلك الحين بدأ الصراع بين التشريع الإسلامي والقوانين الوضعية، وأصبح القضاء في البلاد الإسلامية متجاذبًا بين هذين الطرفين”

إلى أن قال: “إذن؛ يمكن القول: إن بداية التغيير في الأحكام الشرعية الدولة العثمانية كان سنة (1255ه/1839م)، وكان المرتكب لذلك هو السلطان محمود خان، المتوفَّى في السنة نفسها، وكان قد ابتدأ تغييرات غير هذه يصح أن توصف بـ(التغريب)”.

وقال علاء حسن في كتاب “ما زلتُ سلفيًّا! حوار هادئ مع الحنابلة الجدد والما بعدية” (ص38): “فقد أدخل السلطان سليمان القانوني في قانون (نامة) بعض القوانين البيزنطية والأوربية، والذي أدى إلى ثورة فقهاء مصر، وقد استطاع سليمان أن يخمد هذه الثورات، ثم زاد الأمر شيئًا فشيئًا في أواخر عهد العثمانيين؛ حيث أصدروا فرمان (كلخانة) في الاقتباس من القانون الفرنسي بشكل صريح”.

وقال عبدالعزيز الشناوي في “الدولة العثمانية.. دولة إسلامية مفترى عليها” (1/294):

“وكان النشانجي يضع ختم الطغراء على الوثائق والمراسيم وسائر الأوراق الرسمية؛ والطغراء هي شارة السلطان العثماني وهي نقش متداخل معقّد يحمل اسم السلطان”.

وقال بعد ذلك: “وفي ضوء هذا الحق أصبح النشانجي يشبه إلى حد ما المفتي الذي كان اختصاصاته أن يقرِّر أن الإجراء المزمع اتخاذه يتماشى مع قواعد الشريعة الإسلامية، ومن هنا كان النشانجي يعتبر “مفتيًا للقوانين”، ومع ذلك كان النشانجي لا يستطيع تعديل النصوص إلا إذا تلقى أمرًا بهذا المعنى يسمَّى “تصحيح فرماني” ويختمه الصدر الأعظم بنفسه بالطغراء منعًا لإساءة استخدام الحق المخوَّل للنشانجي في هذا الصدد”.

وجاء في (ص306): “فالقوانين كانت تصدر باسم السلطان وبعد موافقته النهائية عليها، ولكن المادة القانونية التي تضمنها هذه القوانين قد اشترك في إعدادها أعضاء الديوان، وهم الذين قاموا بمعاونة مساعديهم بوضع الصياغة القانونية لهذه القوانين.. ولكل هذه الاختصاصات والأسباب وغيرها.. كان الديوان برياسة الصدر الأعظم، وهو يراقب الإدارة ويفصل في القضايا المهمة ويترك بصماته في مجال التشريع، يحكم الدولة العثمانية نيابة عن السلطان ومن أجله ولمصلحته”.

قلت: ومن صور التشريع المناقض لحكم الله في الدولة التركية العثمانية تقنين الرشوة، مع تسميتها بغير اسمها، حيث قال د.صالح سعداوي صالح في كتابه “مصطلحات التاريخ العثماني” (2/419):

“جائزه – جائزة:

رشوة مشروعة كان السلطان سليم الثالث قد سعى لوضعها ضمن نظام معين بعد أن كان أمرًا لا يخضع  لمقاييس معيَّنة حتى ذلك اليوم، وتحوَّل إلى قاعدة وحيدة للحصول على الوظائف من أصغرها حتى رتبة الوزارة نفسها، وبناءً على ذلك تقرَّر للأشخاص الذين سيحصلون على الوزارة أو أي منصب آخر أن يدفعوا مبالغ معيَّنة ولأشخاص وأماكن معيَّنة أيضًا.

واستمرَّ تعاطي الجوائز حتى عهد التنظيمات تحت أسماء جديدة مختلفة مثل (عبوديت) و (بُغجه بَهَا)، وفي عهد التنظيمات سعت الدولة للقضاء على تلك العادة السيئة التي كانت تمارس تحت أسماء مختلفة مثل: رسوم فرمان ورسوم الأوامر وتبشيرية وقدومية وثمن هدايا (هديه بَهَا) وغير ذلك.

ومع هذا فقد بدأ بعد ذلك تعاطي الرشوة سرًّا وبشكل يخالف القوانين.

فالأصل في الجائزة في المصطلح العثماني الهدية التي يُلْزَم بتقديمها للصدر الأعظم وموظفي الصدارة العظمى من يتمُّ تعيينهم في الوظائف العليا مثل عضوية الديوان الهمايوني والوزارة وإمارة الأمراء (بكلربكيلكي) والولاية وإمارة السنجق وغيرها.

وكانت الجائزة تُقَدَّم في البداية على صورة أقمشة وفراء وغير ذلك من اللباس والمتاع الغالي، ثم بدأ تقديم تلك الجوائز بصورة نقدية فقط ابتداءً من آواخر القرن السابع عشر.

ويختلف مقدار الجائزة باختلاف درجة الرتبة والوظيفة بين المانح والمتلقي، وتتحدَّد بوجه خاص إذا كان المانح واليًا، فتكون بالنظر إلى معدَّل الدخل السنوي الذي تدرُّه ولايته، وبعد عام 1779 م أصبح حقُّ الحصول على الجائزة محصورًا في الصدر الأعظم وحده، ومع ذلك فقد استمرَّ وكيل الصدارة وموظفوها في الحصول على أموال الجوائز من الأشخاص الذين يجري تعيينهم في وظائف الدولة.

وفي عام 1828 م صدر قانون بحظر الحصول على جوائز، إلا أنها لم تلبث أن عادت إلى عهدها السابق بعد مدَّة وجيزة.

ولكن أموال الجوائز لم تعد تدرج بعد ذلك ضمن النفقات الشخصية للصدر الأعظم، وأحيلت إلى “خزانة المقاطعات”.

ومع صدور فرمان التنظيمات الخيرية أبطلت عملية تقديم الجوائز بشكل قاطع، كما أطلقت كلمة جائزة أيضًا على العطية أو الهدية التي يُقَدِّمها الحاكم أو رجالات الدولة للشعراء مقابلاً لما نظموه من أشعار المديح وقصائد الثناء التي قَدَّموها لهم” اهـ.

وجاء في كتاب “تاريخ التشريع الإسلامي” (ص216) لمحمد أبي زيد الفقي ومصطفى فرج محمد فياض: “وأول عدوان على أحكام هذه الشريعة كان عدوانًا على أحكام الجنايات والحدود، أي ما يُسمَّى بالعقوبات، وذلك يشمل:  القصاص في النفس وما دونها، وحدود الزنا، والقذف، والسرقة، والشرب، والرِّدة، والبغي، والحرابة، وذلك حين أحدثت الخلافة العثمانية قانون الجزاء العثماني سنة 1840 م وهو ترجمة لقانون الجزاء الفرنسي، مع شيء من التعديل، فسرى هذا القانون على عامَّة البلاد الإسلامية، وبذلك تعطَّل جانب من جوانب الفقه الإسلامي في مجال التطبيق، وانحسر عن أنحاء العالم الإسلامي لولا ما خصَّ الله به الجزيرة العربية من الاستمساك بالشريعة الإسلامية.

أمَّا أحكام العلاقات المدنية كـ: البيوع، والإجارة، والضمان، والكفالة، والحوالة، والرهن، والأمانات، والودائع، والهبة، والغصب، والإتلاف، والحجر، والشفعة، والشركات، وما يتبع ذلك، فقد ظلت الدولة العثمانية تُطَبِّق في الفقه الإسلامي على المذهب الحنفي، وإن كانت قد نظَّمت ذلك فيما يُسمَّى (مجلة الأحكام الشرعية) وأخذت البلاد التابعة للدولة العثمانية بأحكام المجلة.

أمَّا مصر التي كانت قد انفصلت عن الخلافة العثمانية، فقد استنكف حاكمها الخديوي إسماعيل باشا عن تطبيق المجلة الشرعية، وترجم القانون المدني الفرنسي الأول (قانون نابليون) وطَبَّقه في بلاده” اهـ.

قلت: وأما عن مراحل الانتقال من الحكم بالشريعة الغرّاء إلى دخول القوانين الوضعية في مصر، فقد بدأت إرهاصاته منذ أن تولّى محمد علي حكم مصر.

قال أحمد فتحي زغلول بك في كتابه “المُحَامَاة” (ص 158):

“الباب الثاني: (المُحَامَاة في البلاد المصرية):

بحثنا كثيرًا في محفوظات الدفترخانة المصرية، فلم نقف على شيء يتعلق بالمُحاماة في مصر قبل تولية المرحوم محمد علي باشا؛ ولهذا فإنا لا نتكلم عليها إلا من تاريخ حكمه، أمَّا قبله فلم يكن في البلاد نظام للقضاء، وكانت المحاكم الشرعية هي مرجع الفصل في الخصومات التي كانت تُعرَض عليها، وقد علمت نظام الوكلاء أمامها.

وليس بخافٍ أن المرحوم محمد علي باشا تولى حكم البلاد المصرية سنة 1220هـ بعد أن انتابتها الحوادث المختلفة التي انتهت بحكم المماليك، فكان من همِّ الحاكم الجديد أن يبدأ بوضع قواعد حكومة البلاد، وترتيب مصالحها وتنظيم إداراتها العمومية، وهكذا فعل مؤسس العائلة الخديوية كما هو مقرَّر في كتب التاريخ.

والذي يهمنا من تلك النظامات كلها هو نظام القضاء؛ لأن المُحاماة تابعة له، ولم يكن بالبلاد مجالس أو محاكم ننتزع من قوانينها شأن المُحاماة، لهذا رأينا من الواجب بيان تاريخ القضاء في ذلك الزمن، حتى إذا تبيَّنت حالة الأمَّة ووضحت حقوق الرعية وواجباتها بالنظر إلى حكومة ذلك الزمن، أمكننا أن نستنتج منها حالة المُحاماة التي كانت تقوم بالدفاع عن تلك الحقوق والواجبات” اهـ.

وقال أيضًا في نفس الكتاب المذكور (ص 159):

“لما تبوأ المرحوم محمد علي باشا ولاية مصر، كانت قاعًا صفصفًا من كل نظام خالية من كل قانون كما قدَّمنا، وكانت إرادة المُتَغَلِّبين هي التي يرجع إليها في عظيم الأمور وصغيرها.

وقد رأى أنه لا يُمكنه سياسة الأمَّة التي صار أميرًا لها وحاكمًا عليها بنفسه، فعمد إلى تشكيل ديوان سمَّاه (ديوان الوالي) سنة 1220 اختصَّه أولاً بضبط المدينة وربطها والفصل في المشاكل بين الأهالي والأجانب سواء.

وعيَّن فيه عالمًا من كل مذهب من المذاهب الأربع، بصفة مجلس لنظر مسائل المواريث والأوصياء والجنايات الكبيرة، وهذا الديوان هو الذي وضع نظامات البلاد الأولى، وسنِّ اللوائح الابتدائية، وبعد بضع سنين اختار له اسم (الديوان الخديوي)” اهـ.

وقال أيضًا في الكتاب نفسه (ص 180):

“وقد اشتملت هذه الفصول الثلاث على نصوص مختلفة، تتعلق بجميع المصالح العمومية وسير الحكام والموظفين.

وأول واجب فُرِضَ على المديرين والنظار في الأقسام ورؤساء الدواوين والمصالح هو (تحصيل الأموال وباقي مطلوبات الميري في أوقاتها، وحفظ الجسور والترع، وملاحظة كافَّة ري الأصناف في زمن النيل وتخضيرها، وزراعة الصيفي وافتقاد الغير مقتدرين على الزراعة ومساعدتهم بالموافق وعمَّار البلاد، وإعطاء كل ذي حقٍّ حقَّه بالعدل والإنصاف بدون غدر أحد لا من كبير ، ولا من صغير، والنظر بالدقَّة في دعاوى المظلومين بأي نوعٍ كان، ولا ينظرون لأحد بعين الغرض، ولا يراعون خاطره، وملاحظتهم الأشوان والمخازن، وإشغال كافَّة المستخدمين بهم إن كانوا قائمين بوفاء خدمتهم، والأخذ والعطاء بينهم في الكيل والوزن بالاستقامة، وتكملتهم الشروط المتعلِّقة بخدمتهم أم لا؟).

ومما جاء به أيضًا نهي للموظفين من استخدام الأهالي في أطيانهم، ولا استعمال ماشيتهم بالقهر عنهم والمشايخ من ظلم الفلاحين، وبيان كيفية تحصيل الضرائب والأموال، وإخراج الأنفار للسخرة، وانتخاب الكتبة والعمال، وطرق بيع المصالح الميرية للملتزمين وبيع المتاجر بالأشوان، ومشترى لوازم الحكومة والدواوين، وتوريد المواد الأوليَّة للمعامل والمصانع، وتحصيل المتأخرات، ورصد حسابات المصالح في الدفاتر، وقيد المحرَّرات، ومراجعة مستندات الفروع، وواجبات الباشكتاب وتوقيعاتهم على المحرَّرات، ومحاسبة من يفصل عن وظيفته منهم”.

إلى أن قال: “إلى هذا العهد لم يكن للبلاد قانون وضعي يُرجع إليه في المعاملات، بل كان يرجع كثيرًا إلى أحكام الشريعة الغرّاء، كما كان يُرجع في أحوال غير يسيرة إلى إرادة الحاكم ورأيه، كذلك كانت المجالس الموجودة التي مرَّ ذكرها تؤلف من الموظفين بمعنى أنه كان لكلّ عضو من أعضائها وظيفة في دواوين الحكومة غير عضوية ذلك المجلس، وظلّ الحال على هذاالمنوال إلى سنة 1258”.اهـ.

وقال عليُّ عمر –أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية- في كتابه “التجربة المصرية في تطبيق الشريعة الإسلامية” (ص 53):

“…وأخذًا بالأصلح للغرض الذي توخَّاه –أي محمد علي- إلى سنة 1245هـ، ففيها وضع قانونًا عامًّا لضبط أحوال الزراعة  سمَّاه (قانون الفلاح) وطُبٍع ونُشِر في شعبان سنة 1245هـ يناير 1830 م، وقد جاءت نصوصه في خمس وخمسين مادَّة هي المواد من 1 إلى 55 من قانون المُنتخبات، وقد كان هذا القانون خاصًا بالجرائم التي تنتشر في الحياة الريفية، فقد أدرك محمد عليّ ضرورة التشريع الوضعي، وعدم كفاية الأوامر والإرادات المتفرِّقة لتحقيق أغراضه، واقتناعه بعدم ترك الأمور في الأقاليم لأهواء الحكام وتَحكُمهم، فاتَّجه إلى إصدار تشريع شامل للجرائم والعقوبات على النمط الذي كان معروفًا في أوروبا آنذاك، بل دفعته إلى إصدار قوانين تنظيم أهم شئون البلاد، بحيث تختلط  فيه أنواع الأحكام المختلفة من إدارية وتنظيمية ومدنية وجنائية، ولما كانت الزراعة والفلاحة أهم مصادر الثروة في البلاد فقد بدأ بقانون الفلاحة.

والغرض من هذا القانون، كان ضبط أحوال الزراعة بالرغم من أنه يُعَدُّ قانونًا جزائيًّا أكثر منه تشريعيًّا زراعيًّا” اهـ.

قلت: ومن الخطوات المرحلية في الانتقال إلى القوانين الوضعية في مصر قيام أحمد أفندي زغلول –المحامي المشهور- بترجمة كتاب “أصول الشرائع” لـ”بنتام” الفرنسي من اللغة الفرنسية إلى العربية، وقدَّمه للخديوي محمد توفيق باشا؛ تشجيعًا له وحثًّا على سلوك طرائق هؤلاء الفرنسيين في التشريع.

وذكر عليُّ عمر –أمين الفتوى بدار الإفتاء المصرية- في كتابه “التجربة المصرية في تطبيق الشريعة الإسلامية” (ص 215) اللحظة الفارقة التي كانت نقطة تحول إلى القوانين الوضعية في مصر في زمن الخديوي إسماعيل حيث قال: “فعندما أراد الخديوي إسماعيل القيام بحركة التحديث، عرض على علماء الأزهر اقتباس التشريعات المصرية الجديدة من أحكام الشريعة الإسلامية ومذاهب الفقه الإسلامي، ولكن تعصب أتباع كل مذهب من علماء الأزهر لمذهبه أدَّى إلى عدم تحقيق ذلك، فقد أدَّى التعصب المذهبي إلى منع علماء الأزهر من أن يتعاونوا على إظهار الشريعة في أجلِّ صورها، وأضاعوا على العالم فرصةً كبيرةً، تتمثل في سنِّ تشريعات مبنيَّة جملةً وشكلاً من الفقه الإسلامي، أو على الأقلّ في درجة توافقها مع الشريعة الإسلامية أكثر.

ومما يُروى في هذا الصدد أن الخديوي إسماعيل قد اقترح على رجال الأزهر وضع مجموعات قانونية على غرار القوانين في تفصيل موادِّها، مستمدَّة من أحكام الشريعة الإسلامية، غير أن رجال الأزهر رفضوا هذا الاقتراح” اهـ.

وقال أحمد أمين في “فيض الخاطر، وهو مجموع مقالات أدبية واجتماعية” (ص218):

“على هذا الأساس قامت كل إصلاحاتهم الاجتماعية؛ فمثلاً في سنة 1926 قدَّم وزير العدل مشروعًا بقانون للدولة مكوّن من 1800 مادة مقتبس في الأغلب من القانون السويسري، ووافق عليه البرلمان في 4 أكتوبر من هذه السنة، وهو في بعض مسائلة ثائر على النظم المعمول بها الممالك الإسلامية جميعًا؛ فقد كان تعدُّد الزوجات –مثلًا- جائزًا، فجاء هذا القانون وحرَّمه بتاتًا، وكذلك الشأن في المهر، فقد ألغي في القانون الجديد، ولم يفرض على الزوج، وطلب من الزوجة أن تبذل جزءًا من مالها في تأثيث المنزل إن كان لها مال، وسلب الزوج الحق في الطلاق، وجعل للمحكمة وحدها حق الفصل لسبب من أسباب ستَّة محصورة؛ وأكثر من هذا خطورة أن المرأة التركية أصبح لها الحق بهذا القانون أن تتزوج من تشاء من أي دين كان؛ فللتركية المسلمة أن تتزوج نصرانيًّا أو يهوديًّا أو بوذيًّا.

وعدلت قواعد الميراث تعديلاً كبيرًا، فسوَّت بين الذكر والأنثى، فللبنت كما للابن، وللأم كما للأب، وللزوجة كما للزوج، وألغت نظام الإرث بالتعصيب، والإرث بالقرابة البعيدة، في نظام طويل لا محل لتفصيله، وغيروا نظام الولاية والوصية على أساس الحرية”.

قلت: لكن هذه المحاولات اليائسة من أصحاب التغريب والمنهزمين نفسيًّا أمام الغرب الكافر باءت بالفشل في جانب تشريعات الزواج والطلاق والمواريث –أو ما يعرف بنظم الأحوال الشخصية-، وظلّت أحكام الشرع هي الأصل في هذه التشريعات إلا أن سمومهم تسرّب شيء منها إلى هذه التشريعات، والله المستعان.

 

http://abuabdelaala.net/wp-content/uploads/2020/11/العثمانيون_أول_من_طبَّق_القوانين_الوضعية.pdf