شواهد اليقين والتخريج الأمين على نصيحة شيخنا ربيع في تحذير السلفيين من مخالطة أهل الأهواء المبتدعين
شواهد اليقين والتخريج الأمين
على نصيحة شيخنا ربيع في تحذير السلفيين
من مخالطة أهل الأهواء المبتدعين
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وأصحابه ومن اتَّبع هداه،
أما بعد، فقد كنت أودعت كتابي “التعصُّب للشيوخ.. عواطف مشوبة بالأهواء” بحثًا في التحذير من مجالسة أهل الأهواء، والتحذير من المراء معهم، والدخول معهم في خصومات ومناظرات ومغالبات مذمومة، وكان ذلك من خلال كلامي عن “السمة الرابعة من سمات المتعصِّبين: أوتوا الجدل بالباطل مع الفجور واللَّدد في الخصومة مع مخالفيهم”.
وكانت الإبرازة الأولى من هذا الكتاب عام 1429 هـ، ومنذ سبع سنوات تقريبًا، وأنا أعدُّ إبرازةً جديدة منه، والتي على وشك الانتهاء منها إن شاء الله.
فلمَّا اطلعت على نصيحة شيخنا العلامة ربيع بن هادي في “تحذير أهل السنة السلفيين من مجالسة ومخالطة أهل الأهواء المبتدعين”، حمدت الله سبحانه حمدًا كثيرًا على توافق القلوب؛ حيث كنت أقوم في هذا الحين بعمل تعديلات وإضافات في هذا البحث.
وفي الإبرازة الأولى كنت توسعت في جمع الآثار والنقولات عن أئمة السلف الصالح في تقرير هذا الأصل المنهجي، وتوسعت في تخريجها، والتي أورد منها شيخنا العلامة ربيع بن هادي –حفظه الله تعالى- باقة طيبة في هذه النصيحة.
ومن ثَمَّ استللت هذا المبحث من كتابي –في إبرازته الثانية التي ما زالت تحت الإعداد- وجعلته تخريجًا على نصيحة شيخنا –نفع الله بعلمه-، مع ذكر المزيد من الشواهد التي تؤكد صدق وأهمية نصيحة شيخنا –نفع الله به الأمَّة-، وسمّيت ذلك:
“شواهد اليقين والتخريج الأمين على نصيحة شيخنا ربيع في تحذير السلفيين من مخالطة أهل الأهواء المبتدعين”.
وبلا شك استفدت أيضًا من نصيحة شيخنا، وأضفت هذه الفوائد من كلام شيخنا في موضعها المناسب في البحث.
والتخريج عل مؤلّف عالم سابق –حيًّا كان أو ميِّتًا- جادة مطروقة في باب التأليف من القديم، وسمّاه صاحب كتاب “عبقرية التأليف العربي: علاقات النصوص والاتصال العلمي” بـ “الاختيار والمجانسة”([1]).
وقد تلخص عملي فيما يلي:
قمت بتخريج الآثار التي عزاها الشيخ –حفظه الله- إلى كتاب “الإبانة الكبرى” لابن بطة، مع الحكم عليها صحةً وضعفًا.قمت بتخريج الأحاديث المرفوعة وبقية الآثار الموقوفة والمقطوعة.قمت بترتيب الآثار وكلام أهل العلم في سياق جديد.ذكر المزيد من الشواهد التي تبعث اليقين على حكم المسألة.
واعلم –رحمك الله- أن صحبة ومجالسة أهل الأهواء هي بوابة الجدل والخصومات والمناظرات والمغالبات مع أهل البدع والأهواء.
ومن أجل هذا جرى أئمة السنة على تخصيص باب ثابت في كتب الاعتقاد يروون فيه الأحاديث والآثار التي تحذر من الجدال مع أهل البدع وتحذر من مخاصمتهمومماراتهم وصحبتهم ومجالستهم، فقال اللاكائي في “شرح أصــــول الاعتقاد” (1/191)، ط المكتبة الإسلامية): “سيـــــاق مــــــا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في النهي عـــــن منـــــاظرة أهـــــل البـــــدع، وجدالهم، والمكالمة معهم، والاستماع إلى أقوالهم المحدثة، وآرائهم الخبيثة”.
وقال الآجري في الشريعة (1/185)، ط قرطبة): “باب: ذم الجدال والخصومات في الدين”.
وقال ابن بطة في “الإبانة الكبرى” (2/429): “باب: التحذير من صحبة قوم يمرضون القلوب ويفسدون الإيمان”، ثم عقد بابًا في (2/483) بعنوان: “باب: ذم المراء والخصومات في الدين، والتحذير من أهل الجدال والكلام”.
وقال -رحمه الله- في “الإبانة الكبرى” (1/390): “بَابُ تَرْكِ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُغْنِي وَالْبَحْثِ وَالتَّنْقِيرِ عَمَّا لَا يَضُرُّ جَهْلُهُ وَالتَّحْذِيرِ مِنْ قَوْمٍ يَتَعَمَّقُونَ فِي الْمَسَائِلِ وَيَتَعَمَّدُونَ إِدْخَالَ الشُّكُوكِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ قَالَ الشَّيْخُ: “اعْلَمُوا إِخْوَانِي أَنِّي فَكَّرْتُ فِي السَّبَبِ الَّذِي أَخْرَجَ أَقْوَامًا مِنَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، وَاضْطَرَّهُمْ إِلَى الْبِدْعَةِ وَالشَّنَاعَةِ، وَفَتَحَ بَابَ الْبَلِيَّةِ عَلَى أَفْئِدَتِهِمْ وَحَجَبَ نُورَ الْحَقِّ عَنْ بَصِيرَتِهِمْ، فَوَجَدْتُ ذَلِكَ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: الْبَحْثُ وَالتَّنْقِيرُ، وَكَثْرَةُ السُّؤَالِ عَمَّا لَا يُغْنِي، وَلَا يَضُرُّ الْعَاقِلَ جَهْلُهُ، وَلَا يَنْفَعُ الْمُؤْمِنَ فَهْمُهُ. وَالْآخَرُ: مُجَالَسَةُ مَنْ لَا تُؤْمَنُ فِتْنَتُهُ، وَتُفْسِدُ الْقُلُوبَ صُحْبَتُهُ”.
وقال أبو إسماعيل الهروي في “ذمِّ الكلام وأهله” (2/5): “باب ذمِّ الجدال والتغليظ فيه وذكر شؤمه”، ثم أردفه باب: “فضل ترك المراء، وإن كان المماري محقًّا”، ثم بباب: “تغليظ المصطفى” في الجدال في القرآن وتحذيره أهله”.
وكما قال الآجري في الشريعة في الباب المشار إليه (1/195): “فإن قال قائل: فإن كان رجل قد علمه الله تعالى علمًا، فجاءه رجل يسأله عن مسألة في الدين؛ ينازعه فيها ويخاصمه، ترى له أن يناظره؛ حتى تثبت عليه الحجة، ويرد عليه قوله؟
قيل له: هذا الذي نُهينا عنه؛ وهو الذي حذَرناه من تقدم من أئمة المسلمين.
فإن قال قائل: فماذا نصنع؟
قـــــيل لـــــه: إن كان الذي يسألك مسألته: مسألة مسترشد إلى طريق الحق لا مـــــناظرة، فـــــأرشده بألطف مـــــا يكـــون من البيان بالعلم من الكتاب والسنة، وقول الصحابة، وقول أئمة المسلمين -رضي الله عنهم- وإن كان يريد مناظرتك ومجادلتك، فهذا الذي كره العلماء، فلا تناظره، واحذره على دينك، كما قال من تقدم من أئمة المسلمين إن كنت لهم متَّبعًا.
فإن قال قائل: فندعهم يتكلَّمون بالباطل، ونسكت عنهم؟
قيل له: سكوتك عنهم وهجرتك لِما تكلموا به أشدّ عليهم من مناظرتك لهم كذا قال من تقدم من السلف الصالح من علماء المسلمين.
حدثنا أبو بكر بن عبدالحميد قال: حدثنا زهير بن محمد قال: أنا منصور عن سفيان قال: حدثنا حماد بن زيد عن أيوب([2]) أنه قال: “لست برآدٍ عليهم أشدَّ من السكوت”.اهـ
وإليك الأدلة من الكتاب والسنة وآثار سلف الأمة في التحذير من مجالسة وصحبة ومخاصمة أهل البدع والأهواء:
أولاً: الأدلة من كتاب الله عز وجل:
قال الله عَزَّ وَجَلَّ:{وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68].
قال ابن عطية الأندلسي فِي “المحرر الوجيز” (2/125): “وفي هذه الآية دليل قوي على وجوب تجنب أهل البدع، وأهل المعاصي، وأن لا يُجالسوا”.اهـ
وقال القرطبي في تفسيره (5/418): “فدلَّ بِهذا على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر لأن من لَم يتجنبهم، فقد رضي فعلهم” -إلى أن قال-: “وإذا ثبت تَجنب أصحاب المعاصي كما بينّا، فتجنب أهل البدع والأهواء أولى”. اهـ
وقال ابن الجوزي في زاد المسير (3/61، 62): “فيمن أريد بهذه الآية ثلاثة أقوال: أحدها المشركون، والثاني: اليهود، والثالث: أصحاب الأهواء، والآيات: القرآن، خوض المشركين فيه: تكذيبهم به واستهزاؤهم، ويقاربه خوض اليهود، وخوض أهل الأهواء بالمراء والخصومات”. اهـ
وقال الشوكاني فِي “فتح القدير” (1/526): “وفي هذه الآية باعتبار عموم لفظها الذي هو المعتبر دون خصوص السبب دليل على اجتناب كل موقف يخوض فيه أهله بما يفيد التنقص والاستهزاء للأدلة الشرعية كما يقع كثيرًا من أسراء التقليد الذين استبدلوا آراء الرجال بالكتاب والسنة، ولَم يبق في أيديهم سوى قال إمام مذهبنا كذا، وقال فلان من أتباعه بكذا، وإذا سمعوا من يستدل على تلك المسألة بآية قرآنية أو بحديث نبوي سخروا منــــه، ولَم يرفعوا إلَى ما قالــــه رأسًا، وظنوا أنه قد جاء بأمر فظيع وخطب شنيع، وخالف مذهب إمامهم الذي نزَّلوه منزلة مُعلِّم الشرائع، بل بالغوا فِي ذلك حتى جعلوا رأيه القائل واجتهاده الذي هو عن منهج الحق مائل مقدَّمًا على اللّه وعلى كتابه وعلى رسوله، فإن لله وإنا إليه راجعون، ما صنعت هذا المذاهب بأهلها؟!”. اهـ
قلت: فما بال الشوكاني : لو رأى أصحاب الأحزاب المعاصرة، ماذا كان يقول؟
وقال الله سبحانه: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)}.
أخرج ابن جرير في تفسيره (12/600) بسنده من أَبِي الْعَالِيَةِ: “{وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} [هود: 113] يَقُولُ: لَا تَرْضَوْا أَعْمَالَهُمْ، يَقُولُ: الرُّكُونُ الرِّضَا”.
وذكر الماوردي في “النكت والعيون” (2/508) أربع تأويلات في معنى “الركون”، هي: الأول: لا تميلوا، والثاني: لا تدنوا، والثالث: لا ترضوا أعمالهم، والرابع: لا تدهنوا لهم في القول وهو أن يوافقهم في السر ولا ينكر عليهم في الجهر”.
وقال ابن عطية في “المحرّر الوجيز” (2/212): “والَّذِينَ ظَلَمُوا هنا هم الكفار، وهو النص للمتأولين، ويدخل بالمعنى أهل المعاصي”.
قلت: ويدخل بالمعنى أيضًا أهل البدع والأهواء، فهم أشد ظلمًا من أهل المعاصي، لذلك رجّح الشوكاني في فتح القدير (2/601) أن الآية لا تخصُّ المشركين فحسب، فقال: “وَقِيلَ: إِنَّهَا عَامَّةٌ فِي الظَّلَمَةِ مِنْ غَيْرِ فَرْقٍ بَيْنَ كَافِرٍ وَمُسْلِمٍ، وَهَذَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنَ الْآيَةِ: وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّ سَبَبَ النُّزُولِ هُمُ الْمُشْرِكُونَ لَكَانَ الِاعْتِبَارُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ”.
وقال أبو حيان محمد بن يوسف بن حيّان في “البحر المحيط” (6/221): “والنهي متناول لانحطاط فِي هَوَاهُمْ، وَالِانْقِطَاعَ إِلَيْهِمْ، وَمُصَاحَبَتَهُمْ، وَمُجَالَسَتَهُمْ، وَزِيَارَتَهُمْ، وَمُدَاهَنَتَهُمْ، وَالرِّضَا بِأَعْمَالِهِمْ، وَالتَّشَبُّهَ بِهِمْ، وَالتَّزَيِّيَ بِزِيِّهِمْ، وَمَدَّ الْعَيْنِ إِلَى زَهْرَتِهِمْ، وَذِكْرَهُمْ بِمَا فِيهِ تَعْظِيمٌ لَهُمْ”.
وقال تعالى: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
ذكر الماوردي ثلاثة أوجه في تأويل قوله تعالى: { مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}:
“أحدها: من حارب الله ورسوله، قاله قتادة والفراء. الثاني: من خالف الله ورسوله، قاله الكلبي. الثالث: من عادى الله ورسوله”.
قلت: وأهل البدع والأهواء بلا ريب لهم نصيب من الثلاثة.
قال القرطبي في “أحكام القرآن” (17/308): “اسْتَدَلَّ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى مُعَادَاةِ الْقَدَرِيَّةِ وَتَرْكِ مُجَالَسَتِهِمْ.
قَالَ أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ: لَا تُجَالِسِ الْقَدَرِيَّةَ وَعَادِهِمْ فِي اللَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ}.
قُلْتُ: وَفِي مَعْنَى أَهْلِ الْقَدَرِ جَمِيعُ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْعُدْوَانِ”.اهـ
ثانيًا: الأدلة من السنة:
الحديث الأول: أخرج البخاري في “صحيحه” حديث (5534)، ومسلم في “صحيحه” حديث (2628) من حديث أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “مَثَلُ الجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ، كَحَامِلِ المِسْكِ وَنَافِخِ الكِيرِ، فَحَامِلُ المِسْكِ: إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الكِيرِ: إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً”.
قال الحافظ في الفتح (4/324): “وَفِي الْحَدِيثِ النَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ مَنْ يُتَأَذَّى بِمُجَالَسَتِهِ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا وَالتَّرْغِيبُ فِي مُجَالَسَةِ مِنْ يُنْتَفَعُ بِمُجَالَسَتِهِ فِيهِمَا”.
وبوّب ابن حبان في صحيحه على الحديث: “ذِكْرُ الْأَمْرِ بِمُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الدِّينِ دُونَ أَضْدَادِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ”.
وبوَّب عليه في “روضة العقلاء” (ص99-103): “ذكر الحث على صحبة الأخيار والزجر عَن عشرة الأشرار”.
ثم قال: “العاقل يلزم صحبة الأخيار ويفارق صحبة الأشرار؛ لأن مودة الأخيار سريع اتصالها بطيء انقطاعها ومودة الأشرار سريع انقطاعها بطيء اتصالها وصحبة الأشرار تورث سوء الظن بالأخيار ومن خادن الأشرار لم يسلم من الدخول في جملتهم.
فالواجب على العاقل أن يجتنب أهل الريب لئلا يكون مريبا فكما أن صحبة الأخيار تورث الخير كذلك صحبة الأشرار تورث الشر”.
وقال: “العاقل لا يدنس عرضه ولا يعود نفسه أسباب الشر بلزوم صحبة الأشرار ولا يغضي عَن صيانة عرضه ورياضة نفسه بصحبة الأخيار على أن الناس عند الخبرة يتبين منهم أشياء ضد الظاهر منها”.
وقال أيضًا: “العاقل لا يصاحب الأشرار لأن صحبة صاحب السوء قطعة من النار تعقب الضغائن لا يستقيم وده ولا يفي بعهده وإن من سعادة المرء خصالا أربعا أن تكون زوجته موافقة وولده أبرارا وإخوانه صالحين وأن يكون رزقه في بلده، وكل جليس لا يستفيد المرء منه خيرا تكون مجالسة الكلب خيرا من عشرته ومن يصحب صاحب السوء لا يسلم كما أن من يدخل مداخل السوء يتهم”.اهــ
وقال النووي رحمه الله في شرحه على مسلم (16/178): “وَفِيهِ فَضِيلَةُ مُجَالَسَةِ الصَّالِحِينَ وَأَهْلِ الْخَيْرِ وَالْمُرُوءَةِ وَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالْوَرَعِ وَالْعِلْمِ وَالْأَدَبِ وَالنَّهْيُ عَنْ مُجَالَسَةِ أَهْلِ الشَّرِّ وَأَهْلِ الْبِدَعِ وَمَنْ يَغْتَابُ النَّاسَ أَوْ يَكْثُرُ فُجْرُهُ وَبَطَالَتُهُ وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْأَنْوَاعِ الْمَذْمُومَةِ”.اهــ
وقال الأمير الصنعاني رحمه الله في التنوير شرح الجامع الصغير (9/ 521): “قوله: (أو تجد منه ريحاً خبيثاً) كذلك جليس السوء إما أن يصيب من دينك ويحرقك بناره أو يجلب لك كرباً وضيقاً وهو حث على البعد من جليس السوء والقرب من الجليس الصالح. قال علي عليه السلام([3]): “لا تصحب الفاجر فإنه يزين لك فعله ويود أنك مثله” ويقال: “وإياك ومجالسة الأشرار فإن طبعك يسرق منهم وأنت لا تدري).اهــ
وقال شرف الحق العظيم أبادي رحمه الله في عون المعبود (13/178): “وَفِي الْحَدِيث إِرْشَاد إِلَى الرَّغْبَة فِي صُحْبَة الصُّلَحَاء وَالْعُلَمَاء وَمُجَالَسَتهمْ فَإِنَّهَا تَنْفَع فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَة، وَإِلَى الِاجْتِنَاب عَنْ صُحْبَة الْأَشْرَار وَالْفُسَّاق فَإِنَّهَا تَضُرّ دِينًا وَدُنْيَا”.اهــ
الحديث الثاني: أخرج البخاري (4547)، ومسلم (2665) من حديث القَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ، عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، قَالَتْ: تَلاَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذِهِ الآيَةَ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ، مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكِتَابِ، وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الفِتْنَةِ، وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ، وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الأَلْبَابِ}، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ».
وفي رواية عبد الرزاق في تفسيره (1/116) قال: حدثنا معمر عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، عن عائشة، أن النبي ” قرأها –أي آيه آل عمران-، فقال: “إذا رأيتم الذين يـجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم”([4]).
قال ابن الملقن في “التوضيح شرح الجامع الصحيح” (22/139): “وفي الحديث التحذير من مخالطة أهل الزيغ والبدع ومن تتبع المشكلات المشكلة”.
وقال محمَّدُ بنُ عزِّ الدِّينِ عبدِاللطيف بنِ عبدالعزيز بن أمين الدِّين بنِ فِرِشْتَا، الرُّوميُّ الكَرمانيّ، الحنفيُّ، المشهور بـ ابن المَلَك (ت 854 هـ) في “شرح مصابيح السنة للبغوي” (1/158): “”فاحذروهم”؛ أي: لا تجالسوهم ولا تكلموهم”.
الحديث الثالث: أخرج الإمام مسلم في صحيحه (1870): من حديث إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: خَطَبَنَا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ: مَنْ زَعَمَ أَنَّ عِنْدَنَا شَيْئًا نَقْرَؤُهُ إِلَّا كِتَابَ اللهِ وَهَذِهِ الصَّحِيفَةَ – قَالَ: وَصَحِيفَةٌ مُعَلَّقَةٌ فِي قِرَابِ سَيْفِهِ – فَقَدْ كَذَبَ، فِيهَا أَسْنَانُ الْإِبِلِ، وَأَشْيَاءُ مِنَ الْجِرَاحَاتِ، وَفِيهَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْمَدِينَةُ حَرَمٌ مَا بَيْنَ عَيْرٍ إِلَى ثَوْرٍ، فَمَنْ أَحْدَثَ فِيهَا حَدَثًا، أَوْ آوَى مُحْدِثًا، فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لَا يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا، وَلَا عَدْلاً”.
قال أبو نعيم في “تثبيت الإمامة” (ص350): “فَكَانَتِ اللَّعْنَةُ الَّتِي لَحِقَتْهُمْ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحَدَثِهِمْ أَنْ أُلْبِسُوا شِيَعًا وَأُذِيقَ بَعْضُهُمْ بَأْسَ بَعْضٍ إِنْجَازًا لِوَعْدِ اللَّهِ تعالى وَإِنْفَاذًا لِأَمْرِهِ بَعْدَ أَنْ كَانُوا مُسْتَخْلَفِينَ مُمَكَّنِينَ”.
الحديث الرابع: عن عِمْرَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ سَمِعَ مِنْكُمْ بِخُرُوجِ الدَّجَّالِ، فَلْيَنْأَ عَنْهُ مَا اسْتَطَاعَ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَأْتِيهِ وَهُوَ يَحْسَبُ أَنَّهُ مُؤْمِنٌ ، فَمَا يَزَالُ بِهِ حَتَّى يَتْبَعُهُ لِمَا يَرَى مِنَ الشُّبُهَاتِ»([5])
قال ابن بطة -رحمه الله- في الإبانة (2/469) بعد روايته للحديث: “هَذَا قَوْلُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَهُوَ الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ ، فَاللَّهَ اللَّهَ مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ ، لَا يَحْمِلَنَّ أَحَدًا مِنْكُمْ حُسْنُ ظَنِّهِ بِنَفْسِهِ ، وَمَا عَهِدَهُ مِنْ مَعْرِفَتِهِ بِصِحَّةِ مَذْهَبِهِ عَلَى الْمُخَاطَرَةِ بِدِينِهِ فِي مُجَالَسَةِ بَعْضِ أَهْلِ هَذِهِ الْأَهْوَاءِ ، فَيَقُولُ: أُدَاخِلُهُ لِأُنَاظِرَهُ ، أَوْ لِأَسْتَخْرِجَ مِنْهُ مَذْهَبَهُ ، فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ فِتْنَةً مِنَ الدَّجَّالِ ، وَكَلَامُهُمْ أَلْصَقُ مِنَ الْجَرَبِ ، وَأَحْرَقُ لِلْقُلُوبِ مِنَ اللَّهَبِ ، وَلَقَدْ رَأَيْتُ جَمَاعَةً مِنَ النَّاسِ كَانُوا يَلْعَنُونَهُمْ ، وَيَسُبُّونَهُمْ ، فَجَالَسُوهُمْ عَلَى سَبِيلِ الْإِنْكَارِ ، وَالرَّدِّ عَلَيْهِمْ ، فَمَا زَالَتْ بِهِمُ الْمُبَاسَطَةُ وَخَفْيُ الْمَكْرِ ، وَدَقِيقُ الْكُفْرِ حَتَّى صَبَوْا إِلَيْهِمْ”.
ثالثًا: الآثار عن أئمة السلف الصالح:
لقد تضافرت الآثار السلفية على التحذير من المراء والخصومات والمناظرات مع أهل البدع، والتحذير من مجرد مجالسة أهل الأهواء، أو الاستماع إليهم؛ لأن المجالسة والاستماع همــــا باب الشيطــــان إلى المراء والخصومــــة، ثم الــــتردي في هــــوة البدع والأهواء-سلمنا الله وإياكم-.
فأسوق باقة من هذه الآثار:عظةً للمتعصِّبين وتثبيتًا للمتقين وتعليمًا للْمُغرَّر بهم من الشباب الْمُستدرج من قِبَل المتعصِّبين عن طريق هذه الخصومات والمغالبات المذمومة:
قال سعيــــد بن منصور في سننه (723): نا هُشيم، نا العوام -أي: ابن حوشب- عن أبي إياس -أي: قُرة بن معاوية- قال: “الـخصومات في الدين تُـحبط الأعمـال”([6]).
وقــــــال الدارمي في سننه (397): أخبرنا سعيد بن عامر، عــــــن أسمــــــاء بن عبيد قال: دخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين فقالا: يا أبا بكر نحدثك بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله، قال: لا لتقومان عني أو لأقومن، قال: فخرجَا، فقال بعض القوم: يا أبا بكر وما كان عليك أن يقرأ عليك آية من كتاب الله تعالى؟ قال: إني خشيت أن يقرأا علي آية فيحرفانها فيقر ذلك في قلبي([7]).
وقال الدارمي في سننه -أيضًا- (398): أخبرنا سعيد عن سلام بن أبي مطيع أن رجلاً من أهل الأهواء قال لأيوب: يا أبا بكر، أسألك عن كلمة؟ قال: -فولَّى وهو يشير بأصبعه-: ولا نصف كلمة، وأشار لنا سعيد بخنصره اليمنى ([8]) .
وقال ابن وضَّاح في البدع والنهي عنها (128) نا أَسَدٌ قَالَ: نا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زِيَادٍ ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ عَيَّاشٍ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ سُلَيْمَانَ بْنِ سُلَيْمٍ الْحِمْصِيِّ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: «لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ هَوًى؛ فَيَقْذِفَ فِي قَلْبِكَ مَا تَتْبَعُهُ عَلَيْهِ فَتَهْلِكَ، أَوْ تُخَالِفَهُ فَيَمْرَضَ قَلْبُكَ».
وقال: (136) نا أَسَدٌ قَالَ: نا إِسْمَاعِيلُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ حَمَّادِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ عُبَيْدٍ قَالَ: لَقِيَنِي رَجُلٌ مِنَ الْمُعْتَزِلَةِ فَقَامَ فَقُمْتُ، فَقُلْتُ: «إِمَّا أَنْ تَمْضِيَ، وَإِمَّا أَنْ أَمْضِيَ؛ فَإِنِّي إِنْ أَمْشِ مَعَ نَصْرَانِيٍّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَمْشِيَ مَعَكَ».
وقال (138) نا أَسَدٌ قَالَ: نا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ وَاسِعٍ قَالَ: “رَأَيْتُ صَفْوَانَ بْنَ مُحْرِزٍ وَقِريبٌ مِنْهُ شَبَبَةٌ ، فَرَآهُمْ يَتَجَادَلُونَ ، فَرَأَيْتُهُ قَائِمًا يَنْفُضُ ثِيَابَهُ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أَنْتُمْ جَرَبٌ، إِنَّمَا أَنْتُمْ جَرَبٌ”([9]).
وقال (140) نا أَسَدٌ قَالَ: نا أَبُو إِسْحَاقَ الْحَذَّاءُ ، عَنِ الْأَوْزَاعِيِّ قَالَ: «لَا تُمَكِّنُوا صَاحِبَ بِدْعَةٍ مِنْ جَدَلٍ؛ فَيُورِثَ قُلُوبَكُمْ مِنْ فِتْنَتِهِ ارْتِيَابًا».
وقال (129) نا أَسَدٌ قَالَ: نا مُؤَمَّلُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ: نا الْحَسَنُ بْنُ وَهْبٍ قَالَ: نا حُمَيْدٌ الْأَعْرَجُ ، قَالَ: “قَدِمَ غَيْلَانُ مَكَّةَ فَجَاوَرَ بِهَا ، فَأَتَى غَيْلَانُ مُجَاهِدًا وَقَالَ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ، بَلَغَنِي أَنَّكَ تَنْهَى النَّاسَ عَنِّي وَتَذْكُرُنِي ، بَلَغَكَ عَنِّي شَيْءٌ لَا أَقُولُهُ ، إِنَّمَا أَقُولُ كَذَا ، إِنَّمَا أَقُولُ كَذَا ، فَجَاءَ بِشَيْءٍ لَا يُنْكِرُهُ ، فَلَمَّا قَامَ قَالَ مُجَاهِدٌ: لَا تُجَالِسُوهُ؛ فَإِنَّهُ قَدَرِيٌّ. قَالَ حُمَيْدٌ: فَإِنِّي يَوْمًا فِي الطَّوَافِ لَحِقَنِي غَيْلَانُ مِنْ خَلْفِي فَجَبَذَ رِدَائِي فَالْتَفَتُّ ، فَقَالَ: كَيْفَ يَقْرَأُ مُجَاهِدٌ حَرْفَ كَذَا وَكَذَا؟ فَأَخْبَرْتُهُ ، فَمَشَى مَعِي ، قَالَ: فَبَصُرَ بِي مُجَاهِدٌ مَعَهُ ، فَأَتَيْتُهُ فَجَعَلْتُ أُكَلِّمُهُ فَلَا يَرُدُّ عَلَيَّ ، وَأَسْأَلُهُ فَلَا يُجِيبُنِي ، قَالَ: فَغَدَوْتُ إِلَيْهِ فَوَجَدْتُهُ عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا الْحَجَّاجِ ، مَا لَكَ؟ أَبَلَغَكَ عَنِّي شَيْءٌ ، أَحْدَثْتُ حَدَثًا، مَا لِي؟ فَقَالَ: أَلَمْ أَرَكَ مَعَ غَيْلَانَ وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ أَنْ تُكَلِّمُوهُ ، أَوْ تُجَالِسُوهُ ، قَالَ: قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا أَبَا الْحَجَّاجِ مَا ذَكَرْتُ قَوْلَكَ ، وَمَا بَدَأْتُهُ ، هُوَ بَدَأَنِي ، قَالَ: فَقَالَ: وَاللَّهِ يَا حُمَيْدُ ، لَوْلَا أَنَّكَ عِنْدِي مُصَدَّقٌ مَا نَظَرْتَ لِي فِي وَجْهٍ مُنْبَسِطٍ مَا عِشْتُ”.
وقال الآجري في الشريعة (125) حدثنا أبو بكر عبد الله بن محمد بن عبد الحميد الواسطي قال: ثنا محمد بن المثنى قال: حدثنا حماد بن مسعدة قال: كان عمران القصير يقول: “إياكم والـمنازعة والـخصومة،وإياكم وهؤلاء الذين يقولون: أرأيت أرأيت”([10]).
وقال أيضًا برقم (130) حدثنا ابن عبد الحميد قال: حدثنا زهير قال: أخبرنا أبو خالد قال: حــــــدثنا سفيان عــــــن عــــــمرو -يعني ابن قيس- قال: قلت للحكم: ما اضطر الناس إلى الأهواء؟ قال: الـخصومات ([11]).
وقال الفريابي في القدر (380): حـــــــدثنا محمد بن داود، حــــــــدثني محمد بن عيسى، حدثني محمد، عن هشام قال: جاء رجل إلى الحسن فقال: يا أبا سعيد تعالَ حـــــتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني فإن كنت أضللت دينك فالتمسه.
وفي (383): حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا يحيى بن آدم، حدثنا حماد بن زيد، عن محمد بن واسع، عن مسلم بن يسار أنه كان يقول: إياكم والـمراء فإنها ساعة جهل العالـم، وبها يبتغي الشيطان زلته([12]).
وفي (385): حدثنا قتيبة بن سعيد، حدثنا حماد بن زيد، عن يحيى بن سعيد -وهو الأنصاري- قال: إن عمر بن عبد العزيز قـــال: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل -وفي رواية: أكثرالشك، أو أكثر التحول-([13]).
وقال الآجري في الشريعة (ص56): حدثنا الفريابي، قال: حدثني إبراهيم بن المنذر الحزامي، حدثنا معن بن عيسى قال: انصرف مالك بن أنس يومًا من المسجد، وهو مُتكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له أبو الْحُورية -كان يُتهم بالإرجاء- فقال: يا عبد الله، اسمع مني شيئًا! أُكلَّمك به وأُحاجُّك، وأخبرك برأيي قال: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعني، قال: فإن جاء رجل آخر، فكلَّمنا فغلبنا؟ قال: نتبعه، فقال: مالك -رحمه الله-: يا عبد الله: بعث الله عز وجل مُـحمدًا بدين واحد، وأراك تنتقل من دين إلى دين، قال عمر بن عبد العزيز: من جعل دينه غرضًا للخصومات أكثر التنقل([14]).
وقال ابن بطة في الإبانة (672) (2/538) حدثنا أبو القاسم حفص بن عمر قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا أحمد بن سنان قال: جاء أبو بكر الأصم إلى عبدالرحمن بن مهدي فقال: جئت حتى أناظرك في الدين، فقال: إن شككت في شيء من أمر دينك، فقف حتى أخرج إلى الصلاة، وإلا فاذهب إلى عملك، فمضى ولم يثبت.
وأخرج الخطيب في الفقيه والمتفقه (603) بإسناده عن عبد الله بن أحمد قال: حدثني أبي قال: نا إسحاق بن عيسى الطبّاع قال: رأيت رجلاً من أهل المغرب جاء مالكًا فقال: إن الأهواء كثرت قبلنا، فجعلت على نفسي، إن أنا رأيتك، أن آخذ بما تأمرني، فوصف له مالك شرائع الإسلام: الزكاة والصلاة والصوم والحج، ثم قال: “خذ بهذا، ولا تـخاصم أحدًا في شيء”.
وقال ابن أبي حاتم في تفسيره (4/1168) في تفسير قوله تعالى: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾ [المائدة: 64]، حدثنا أحمد بن سنان، ثنا يزيد بن هارون، عن العوام بن حوشب، عن إبراهيم التيمي: قوله: ﴿وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ﴾، قال: الـخصومات والـجدال في الدين([15]).
وقال الــــــدارمي (302): أخبرنا سعيد بن عــــــامر، عن إسماعيل بن إبراهيم، عن يونس قال: “كتب لي ميمون بن مهران:إياك والخصومة والجدال في الدين، ولا تجادلن عالمًا ولا جاهلاً، أما العالم؛ فإنه يخزن عنك علمه، ولا يبالي ما صنعت، وأما الجاهل؛ فإنه يخشن بصدرك ولا يطيعك”([16]).
وقــــــال عــــــبد الله بن أحمد في “العلل ومعرفة الرجال” (36): حــــــدثني أبي قال: حدثنا وكيع قال: حــــــدثنا مسعر، عن الحكم قال: قال أبو عيسى: لا تـمـارين صديقك ولا تـمـازحه، قال أبي: يعني عبد الرحمن بن أبي ليلى أبو عيسى.
وقال الدارمي أيضًا (391): أخبرنا سليمان بن حرب عن حماد بن زيد عن أيوب قال:قال أبو قلابة: لا تـجالسوا أهل الأهواء ولا تـجادلوهم؛ فإني لا آمن أن يغمسوكم في ضلالتهم أو يلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون([17]).
وقال ابن أبي الدنيا في الصمت (154): حدثنا علي بن الحسين العــــامري، حدثنا أبو النضر هـاشم بن القاسم، عن الأشجعي، حــــدثنا الربيع بن الملاح قـــــــال: سمعت أبا جعفر يقول: إياكم والـخصومة؛ فإنها تـمحق الدين.
وحدثني من سمعه يقول:وتورث الشنآن وتذهب الاجتهاد([18]).
وقال ابن أبي الدنيا في الورع (53): حدثني أبي وأحمد بن منيع قالا: حدثنا مروان بن شجاع عن عبدالكريم الجزري قال: ما خاصم ورع قط، يعني في الدين([19]).
وقال يعقوب بن سفيان في “المعرفة والتاريخ” (2/803): حدثنا محمد بن عبد الله بن عمار، حدثنا حفص بن غياث قال: سمعت سفيان الثوري يقول: ما تأتون أحدًا أحفظ من حجاج بن أرطأة، قال حفص: وسمعت حجاجًا يقول: ما خاصمت أحدًا قط، ولا جلست إلى قوم يـختصمون([20]).
وقال ابن سعد في الطبقات (6/251/ط صادر) (8/370-371/ط الخانجي): أخبرنا محمد بن عبد الله الأنصاري قال حدثنا صالح بن مسلم([21]) قال: كنت مع الشعبي ويدي في يده -أو يده في يدي- فانتهينا إلىالمسجد فإذا حماد([22]) في المسجد، وحوله أصحابه ولهم ضوْضَاة وأصوات، قال: فقال: والله لقد بغَّض إليَّ هؤلاء هذا المسجد حتى تركوه أبغض إلي من كُناسة داري، معاشر الصعافقة([23])،فانصاع راجعًا ورجعنا.
وأخرجه البيهقي في المدخل (215) بإسناد صحيح عن المبارك بن سعيد الثوري ثنا صالح بن مسلم قال: لقيت الشعبي فقال: لقد بغض إليَّ هؤلاء المسجد حتى لهو أبغض إلي من الكناسة، فقلت: ممَّ يا أبا عمرو؟ قال:هؤلاء الرائيون أصحاب الرأي لـمـا أعيتهم أحاديث رسول الله ” أن يـحفظوها يـجادلون([24]).
وأخرجه البيهقي أيضًا من طريق أخرى برقم (228) من طريق يحيى بن سعيد القطان عن صالح عنه بزيادة في أوله: “إنما هلكتم حين تركتم الآثار، وأخذتم في الـمقاييس”.
وأخرجه الخطيب في الفقيه والمتفقه (500) من طريق محمد بن كناسة عن صالح، وفيه: “هؤلاء الرَّأَيتِيُّون:أرأيت! أرأيت!”.
وقال ابن سعد أيضًا: أخبرنا قبيصة بن عقبة قال: حدثنا سفيان، عن عبد الله بن أبي السفر، عن الشعبي قال: لقد أتى علي زمان، وما من مجلس أحب إلي أن أجلس فيه من هذا المسجد، فلكناسة اليوم أجلس عليها أحب إليَّ من أن أجلس في هذا المسجد، قال: وكان يقول إذا مرَّ عليهم: ما يقول هؤلاء الصعافقة أو قال بنو أستها -شك قبيصة-؟ ما قالوا لك برأيهم فبل عليه، وما حدثوك عن أصحاب محمد “فخذ به([25]).
وقال ابن جرير في تفسيره (21/518/ت شاكر)(20/487/ط هجر): حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: ثَنَا أَبُو عَاصِمٍ قَالَ: ثَنَا عِيسَى، وَالْحَارِثُ قَالَ: ثَنَا الْحَسَنُ قَالَ: ثَنَا وَرْقَاءُ، جَمِيعًا، عَنِ ابْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِهِ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [الشورى: 15] قَالَ: «لَا خُصُومَةَ»([26]).
ثم قال: حَدَّثَنِي يُونُسُ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [الشورى: 15] “لَا خُصُومَةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، وقرأ: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ﴾ [العنكبوت: 46]([27]).
وقال أبو نعيم في الحلية (3/103) حَدَّثَنَا أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ حَيَّانَ، ثنا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيٍّ، ثنا أَبُو سَعِيدٍ الْأَشَجُّ، ثنا أَبُو خَالِدٍ الْأَحْمَرُ، قَالَ: كَانَ عَمْرُو يَقُولُ: “لَا تُجَالِسْ صَاحِبَ زَيْغٍ فَيَزِيغَ قَلْبُكَ”([28]).
بل نقل ثابت بن العجلان إجماع السلف الصالح على ترك مجادلة ومجالسة أهل الأهواء، كما أخرج هذا الفسوي في “السنة””نصوص مقتبسة منه، المعرفة والتاريخ” (3/491، 492): حدثنا عمرو بن عثمان قال حدثنا بقية قال حدثنا ثابت بن العجلان قال: أدركت أنس ابن مالك، وابن المسيب، والحسن البصري، وسعيد بن جبير، والشعبي، وإبراهيم النخعي، وعطـــــــاء بن أبي رباح، وطـــــــاوس، ومجاهد، وعبد الله بن أبي مليكة، والزهري، ومكحول، والقاسم أبا عـــــــبد الرحمـــــــن، وعـــــطاء الخراساني، وثابت البناني، والحكم بن عتبية، وأيوب السختياني، وحماد ومحمد بن سيرين، وأبا عـــامر -وكان قد أدرك أبا بكر الصديق- ويزيد الرقاشي وسليمان بن موسى: كلهم يأمروني بالـجمـاعة، وينهوني عن أصحاب الأهواء.
وقال ابن رجب في “جــــــامع العلـــوم والحكم” (ص93): “وقال ابن وهب عن مالك: أدركت هذه البلدة، وإنهم ليكرهون الإكثار الذي فيه الناس اليوم -يريد المسائل-.
وقال أيضا سمعت مالكًا: وهــو يعيب كثرة الكلام وكثرة الفتيا، ثم قال: يتكلم كأنه جمل مغتلم، يقول: هو كذا هو كذا يهدر في كلامه، وقال: سمعت مالكًا يكره الجواب في كثرة المسائل، وقال: قال الله عز وجل:{وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي}، فلم يأته في ذلك جواب، فكان مالك يكره المجادلة عن السنن، وقال أيضًا الهيثم بن جميل: قلت لمالك: يا أبا عبد الله الرجل يكون عالمًا بالسنن يجادل عنها، قال: لا، ولكن يخبر بالسنة، فإن قبلت منه، وإلا سكت.
قال إسحق بن عيسي: كان مالك يقول: “الـمراء والـجدال في العلم يذهب بنور العلم من قلب الرجل”.
وقال أيضًا: “وقال الأوزاعي: إن الله إذا أراد أن يحرم عبده بركة العلم ألقى على لسانهالمغاليط، فلقد رأيتهم أقل الناس علمًا”.
وذكر الإمام أحمد في أصول السنة (5)، أن من أصول السنة: “ترك الـخصومات، والـجلوس مع أصحاب الأهواء، وترك الـمراء والـجدال والـخصومات في الدين”.
وقال صالح بن أحمد في مسائله لأبيه (588): كتب رجل إلى أبي يسأله عن مناظرة أهل الكلام والجلوس معهم، فأملى عليَّ جوابه:
“أحسن الله عاقبتك، ودفع عنك كلَّ مكروه ومحذور، الذي كنا نسمع وأدركنا عليه من أدركنا من أهل العلم: أنهم كانوا يكرهون الكلام والخوض مع أهل الزيغ، وإنما الأمر في التسليم والانتهاء إلى ما في كتاب الله عز وجل، لا يعد ذلك، ولـم يزل الناس يكرهون كل مُـحدَث: من وضع كتاب أو جلوس مع مبتدع، ليورد عليه بعض ما يلبس عليه في دينه،فالسلامة إن شاء الله في ترك مـجالستهم والـخوض معهم في بدعتهم وضلالتهم،فليتق الله رجل وليصر إلى مــا يعود علــــيه نفعه غدًا من عمل صالح يقدمه لنفسه، ولا يكون مِمَّن يحدث أمرًا، فإذا هــو خــرج مــنه أراد الحجة له، فيحمل نفسه على المحك فيه، وطلب الحجة لما خرج منه بحقٍّ أو بباطل، ليزين به بدعته وما أحدث، وأشد من ذلك أن يكون وضعه في كتاب، فأُخذ عنه، فهو يزين ذلك بالحق والباطل، وإن وضح له الحق في غيره.
نسأل الله التوفيق لنا ولك ولجميع المسلمين، والسلام عليك”.اهـ
وقال الآجري -رحمه الله- في الشريعة (1/197) بعد أن ساق بأسانيده بعض الآثار السابقة: “فمن اقتدى بهؤلاء الأئمة سلم له دينه إن شاء الله تعالى”.
وقال الشاطبي في الاعتصام (1/172-173/ت الهلالي) بعد أن ذكر بعض الآثار في التحذير من صحبة أهل البدع، منها أثر أبي قلابة: “وَوَجْهُ ذَلِكَ ظَاهِرٌ مُنَبَّهٌ عَلَيْهِ فِي كَلَامِ أَبِي قِلَابَةَ، إِذْ قَدْ يَكُونُ الْمَرْءُ عَلَى يَقِينٍ مِنْ أَمْرٍ مِنْ أُمُورِ السُّنَّةِ، فَيُلْقِي لَهُ صَاحِبُ الْهَوَى فِيهِ هَوًى مِمَّا يَحْتَمِلُهُ اللَّفْظُ لَا أَصْلَ لَهُ، أَوْ يَزِيدُ لَهُ فِيهِ قَيْدًا مِنْ رَأْيِهِ، فَيَقْبَلُهُ قَلْبُهُ، فَإِذَا رَجَعَ إِلَى مَا كَانَ يَعْرِفُهُ، وَجَدَهُ مُظْلِمًا، فَإِمَّا أَنْ يَشْعُرَ بِهِ، فَيَرُدَّهُ بِالْعِلْمِ، أَوْ لَا يَقْدِرُ عَلَى رَدِّهِ، وَإِمَّا أَنْ لَا يَشْعُرَ بِهِ; فَيَمْضِيَ مَعَ مَنْ هَلَكَ.
قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: “وَسَمِعْتُ مَالِكًا إِذْ جَاءَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ يَقُولُ: أَمَّا أَنَا، فَعَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي، وَأَمَّا أَنْتَ فَشَاكٌّ، فَاذْهَبْ إِلَى شَاكٍّ مِثْلِكَ فَخَاصِمْهُ، ثُمَّ قَرَأَ: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ} [يوسف: 108]
فَهَذَا شَأْنُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ عَدَمِ تَمْكِينِ زَائِغِ الْقَلْبِ أَنْ يُسْمِعَ كَلَامَهُ”.اهـ
قلت: ولقوة تأثير المجالسة والمصاحبة في نفس صاحبها، جعلها السلف الصالح ميزانًا في معرفة حال الرجل من حيث الحكم عليه بالسنة أو البدعة، فحذَّروا مِمَّن يجالس أهل البدع والأهواء والخصومات، ويأنس إليهم ويصاحبهم، وإن ادعى أنه ليس منهم، وإليك باقة من الآثار في هذا الباب:
أخرج مسلم في صحيحه(2638) من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»، وعلَّقه البخاري في صحيحه بصيغة الجزم (كتاب الأنبياء: بَابٌ: الأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ).
قال القاضي عياض في “إكمال المعلم بفوائد مسلم” (8/118): “وقوله: ” الأرواح جنود مجندة ” أى أجناس مجنسة ” فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف “: قيل: معنى ” أجناد مجندة “: أى جموع مجمعة، وقيل: أجناس مختلفة. هذا التعارف لأمر جعله الله فيها وجبلها عليه، وأشبه ما فيه أن يكون تعارفها موافقة صفاتها التى خلقت عليها، وتشابهها فى شيمها التى خلقت بها، وقيل: تعارفها أنها خلقت مجتمعة، ثم فصلت فى أجسادها كل قسم فى جسدين، فمن وافق قسمه ألفه، ومن باعده نافره، وقيل: هو ما يعرف الله به إليها من صفاته ودلها به عليه من لطفه وأفعاله، فكل زوج عُرفَ من الإجزاء به تعرف إلى الله بمثل ما تعرف هو به إلفه. وقال الخطابى: تآلفها: هو ما خلقها عليه من السعادة أو الشقاوة في المبدأ الأول. وفيه تقدمها على خلق الأجساد، كما جاء فى الحديث، وأخبر أنه قسمها قسمين: مختلفة ومؤتلفة”.
وقال الأمير الصنعاني في “التنوير شرح الجامع الصغير” (4/490): “(الأرواح) التي قامت بها الأجساد. (جنود مجندة) بضم الميم وسكون الجيم وتشديد النون أي مجموعة كما يقال ألوف مؤلفة وقناطير مقنطرة. (فما تعارف) أي يوافق في الأخلاق والصفات. (منها ائتلف) أي ألف قلبه قلب الآخر وإن تباعدا (وما تناكر منها) أي لم يتوافق ولم يتناسب. (اختلف) نافر قلبه عنه وإن تقارب جسداهما فالائتلاف والاختلاف للقلوب والأرواح ويتبعها توافق الأجسام وهو إعلام بأن الأرواح في عالمها وافق بعضها بعضاً بصفات ومناسبات فتألفت في عالم الأجسام وتناكر بعض منها هنالك فيتناكر في هذا العالم وإن الكل من الأدلة على القدرة الإلهية والحكمة الرحماني”.اهـ
وقال ابن مسعود -رضي الله عنه-: “اعتبروا الناس بأخدانهم، فإن المرء لا يخادن إلا مَن يُعجبه”، في لفظ:”إنما يماشي الرجل ويصاحب من يحبه، ومن هو مثله”، وفي لفظ ثان: “اعتبروا الرجل بمن يصاحب، فإنما يصاحب من هو مثله”، وفي لفظ ثالث: “اعتبروا الأرض بأسمائها، واعتبروا الصاحب بالصاحب”([29]).
وقال أبو الدرداء: إن من فقه الرجل ممشاه ومدخله ومجلسه، قال أبو قلابة : قاتل الله الشاعر حيث يقول:
عن الـمرء لا تسأل وأبصر قرينه
وكل قرين بالـمقارن مـهتدي([30])
وقال ابن بطة: أنشدنا أبو بكر بن الأنباري قال : أنشدني أبي لأبي العتاهية:
من ذا الذي يخفى عليك إذا نظرت إلى قرينه
وعلى الفتى بطباعه سمة تلوح على جبينه
وعن حنبل بن إسحاق، قال: سمعت أبا عبد الله يقول: “أهل البدع ما ينبغي لأحد أن يجالسهم، ولا يخالطهم، ولا يأنس بهم”. [الإبانة الكبرى لابن بطة 495].
وقال ابن عون: “من يجالس أهل البدع أشد علينا من أهل البدع”. [الإبانة الكبرى لابن بطة 486].
وقال الفضيل بن عياض: “من جلس مع صاحب بدعة فاحذره”([31]).
وقال البربهاري في “شرح السنة” (112رقم 145): “إذا رأيت الرجل جالسًا مع رجل من أهل الأهواء فحذِّره وعرِّفه، فإن جلس معه بعد ما علم فاتقه فإنه صاحب هوى”.
وقال ابن بطة في الإبانة (2/456): (422) حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْقَاسِمِ بْنِ بَشَّارٍ النَّحْوِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْأَسَدِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ الْفَرَجِ الرِّيَاشِيُّ , قَالَ: حَدَّثَنَا الْأَصْمَعِيُّ , قَالَ: سَمِعْتُ بَعْضَ فُقَهَاءِ الْمَدِينَةِ يَقُولُ: إِذَا تَلَاحَمَتْ بِالْقُلُوبِ النِّسْبَةُ تَوَاصَلَتْ بِالْأَبْدَانِ الصُّحْبَةُ. قَالَ الشَّيْخُ: وَبِهَذَا جَاءَتِ السُّنَّةُ”.
وقال (429): حَدَّثَنَا أَبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الدَّقَّاقُ قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَيَّاطُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ يَزِيدَ الصَّائِغُ ، مَرْدَوَيْهِ قَالَ: سَمِعْتُ الْفُضَيْلَ بْنَ عِيَاضٍ، يَقُولُ: الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ ، فَمَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُ سُنَّةٍ يُمَالِي صَاحِبَ بِدْعَةٍ إِلَّا مِنَ النِّفَاقِ. قَالَ الشَّيْخُ: صَدَقَ الْفُضَيْلُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ، فَإِنَّا نَرَى ذَلِكَ عِيَانًا”.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في “منهاج السنة” (6/425): “وَأَمَّا الرَّافِضِيُّ فَلَا يُعَاشِرُ أَحَدًا إِلَّا اسْتَعْمَلَ مَعَهُ النِّفَاقَ، فَإِنَّ دِينَهُ الَّذِي فِي قَلْبِهِ دِينٌ فَاسِدٌ، يَحْمِلُهُ عَلَى الْكَذِبِ وَالْخِيَانَةِ، وَغِشِّ النَّاسِ، وَإِرَادَةِ السُّوءِ بِهِمْ، فَهُوَ لَا يَأْلُوهُمْ خَبَالًا، وَلَا يَتْرُكُ شَرًّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ إِلَّا فَعَلَهُ بِهِمْ، وَهُوَ مَمْقُوتٌ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ أَنَّهُ رَافِضِيٌّ تَظْهَرُ عَلَى وَجْهِهِ سِيمَا النِّفَاقِ وَفِي لَحْنِ الْقَوْلِ، وَلِهَذَا تَجِدُهُ يُنَافِقُ ضُعَفَاءَ النَّاسِ وَمَنْ لَا حَاجَةَ بِهِ إِلَيْهِ، لِمَا فِي قَلْبِهِ مِنَ النِّفَاقِ الَّذِي يُضْعِفُ قَلْبَهُ.
وَالْمُؤْمِنُ مَعَهُ عِزَّةُ الْإِيمَانِ، فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ. ثُمَّ هُمْ يَدَّعُونَ الْإِيمَانَ دُونَ النَّاسِ، وَالذِّلَّةُ فِيهِمْ أَكْثَرُ مِنْهَا فِي سَائِرِ الطَّوَائِفِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} [سُورَةُ غَافِرٍ: 51] . وَهُمْ أَبْعَدُ طَوَائِفِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَنِ النُّصْرَةِ، وَأَوْلَاهُمْ بِالْخِذْلَانِ. فَعُلِمَ أَنَّهُمْ أَقْرَبُ طَوَائِفُ [أَهْلِ] الْإِسْلَامِ إِلَى النِّفَاقِ، وَأَبْعَدُهُمْ عَنِ الْإِيمَانِ.
وَآيَةُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ حَقِيقَةً، الَّذِينَ لَيْسَ فِيهِمْ إِيمَانٌ مِنَ الْمَلَاحِدَةِ، يَمِيلُونَ إِلَى الرَّافِضَةِ، وَالرَّافِضَةُ تَمِيلُ إِلَيْهِمْ أَكْثَرُ مِنْ سَائِرِ الطَّوَائِفِ.
وَقَدْ قَالَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْأَرْوَاحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، مَا تَعَارَفَ مِنْهَا ائْتَلَفَ، وَمَا تَنَاكَرَ مِنْهَا اخْتَلَفَ»، وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَخَدَانِهِمْ.
فَعُلِمَ أَنَّ بَيْنَ أَرْوَاحِ الرَّافِضَةِ وَأَرْوَاحِ الْمُنَافِقِينَ اتِّفَاقًا مَحْضًا: قَدْرًا مُشْتَرَكًا وَتَشَابُهًا، وَهَذَا لِمَا فِي الرَّافِضَةِ مِنَ النِّفَاقِ، فَإِنَّ النِّفَاقَ شُعَبٌ”.اهـ
قلت: وعلى النقيض فإن مجالسة أهل العلم والحكمة والسنة تورث صاحبها العلم والحكمة واتباع السنة، كما قال أبو علي إسماعيل بن القاسم القالي البغدادي في الأمالي (2/157): “حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو حاتم سهل بن محمد السّجستاني، قَالَ: قَالَ عامر بن الظّرِب العَدْواني: يا معشر عَدْوان، الخير أَلوف عَرُوف، وإنه لن يفارق صاحبه حتى يفارقه، وإني لم أكن حكيمًا حتى صاحبت الحكماء، ولم أكن سيدكم حتى تعبَّدت لكم”.
وقال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (15/327): “فَالْمُصَاحَبَةُ وَالْمُصَاهَرَةُ وَالْمُؤَاخَاةُ لَا تَجُوزُ إلَّا مَعَ أَهْلِ طَاعَةِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مُرَادِ اللَّهِ”.
وتأمل هذه المجالسة بين الإمامين: أبي عبَيد القاسم بن سلاَّم وأحمد بن حنبل –رحمهما الله-، وكيف استفاد أبو عبيد من أحمد ثلاث فوائد من هذه الجلسة:
جاء في الآداب الشرعية لابن مفلح (3/238): “رَوَى أَبُو بَكْرٍ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا قَالَ: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ زُرْتَ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ فَلَمَّا دَخَلْتُ عَلَيْهِ بَيْتَهُ قَامَ فَاعْتَنَقَنِي وَأَجْلَسَنِي فِي صَدْرِ مَجْلِسِهِ فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ أَلَيْسَ يُقَالُ صَاحِبُ الْبَيْتِ وَالْمَجْلِسِ أَحَقُّ بِصَدْرِ بَيْتِهِ أَوْ مَجْلِسِهِ قَالَ: نَعَمْ يَقْعُدُ، وَيُقْعِدُ مَنْ يُرِيدُ قَالَ: قُلْتُ فِي نَفْسِي: خُذْ يَا أَبَا عُبَيْدٍ إلَيْكَ فَائِدَةً. ثُمَّ قُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ لَوْ كُنْتُ آتِيكَ عَلَى حَقِّ مَا تَسْتَحِقُّ لَأَتَيْتُكَ كُلَّ يَوْمٍ، فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ فَإِنَّ لِي إخْوَانًا مَا أَلْقَاهُمْ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا مَرَّةً أَنَا أَوْثَقُ فِي مَوَدَّتِهِمْ مِمَّنْ أَلْقَى كُلَّ يَوْمٍ، قُلْتُ: هَذِهِ أُخْرَى يَا أَبَا عُبَيْدٍ، فَلَمَّا أَرَدْت الْقِيَامَ قَامَ مَعِي قُلْتُ: لَا تَفْعَلْ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: فَقَالَ قَالَ الشَّعْبِيُّ: مِنْ تَمَامِ زِيَارَةِ الزَّائِرِ أَنْ تَمْشِيَ مَعَهُ إلَى بَابِ الدَّارِ وَتَأْخُذَ بِرِكَابِهِ قَالَ قُلْتُ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ مَنْ عَنْ الشَّعْبِيِّ؟ قَالَ ابْنُ زَائِدَةَ عَنْ مُجَالِدٍ عَنْ الشَّعْبِيِّ.
قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَا عُبَيْدٍ هَذِهِ ثَالِثَةٌ”.
قلت: واعلم –رحمك الله- أن اعتزال الفتن في هذا الزمان صار متعيِّنًا على كلّ من أراد السلامة في دينه، ومن ذلك اعتزال المتعصِّبين وهجرهم وعدم الخوض معهم بأي نوع من أنواع الخوض؛ حيث إن الخوض معهم يثير الفتنة، ويقسي القلب، ويوهن دين صاحبه.
قال شيخنا العلامة ربيع بن هادي المدخلي –حفظه الله تعالى- في خاتمة مقاله “تحذير أهل السنة السلفيين من مجالسة ومخالطة أهل الأهواء المبتدعين” –المنشور على شبكة سحاب السلفية-:”أقول: فنحن نحذر الشباب السلفي من مخالطة أهل الأهواء، والاستئناس بهم([32])، والركون إليهم، فليعتبروا بمن سلف ممن كان يغتر بنفسه ويرى نفسه أنه سيهدي أهل الضلال، ويردهم عن زيغهم وضلالهم؛ وإذا به يترنح ويتخبط ثم يصرع في أحضان أهل البدع.
وقد مضت تجارب من فجر تاريخ الإسلام، فأُناس من أبناء الصحابة لما ركنوا إلى ابن سبأ؛ وقعوا في الضلال.
وأناس من أبناء الصحابة والتابعين لما ركنوا إلى المختار بن أبي عبيد؛ وقعوا في الضلال.
وأناس في هذا العصر ركنوا إلى كثير من الدعاة السياسيين الضالين ومن رؤوس البدع؛ فوقعوا في حبائل أهل الضلال.
كثيرون هم وكثيرون جدًّا، ولكن نذكر منهم قصة عمران بن حطان، كان من أهل السنة وهوى امرأة من الخوارج، فأراد أن يتزوجها ويهديها إلى السنة، فتزوجها؛ فأوقعته في البدعة، وكان يريد أن يهديها فضل بسببها.
وكثير من المنتسبين إلى المنهج السلفي يقول: أنا أدخل مع أهل الأهواء لأهديهم فيقع في حبائلهم.
عبد الرحمن بن ملجم، وعمران بن حطان، كلاهما كان ينتمي إلى السنة ثم وقعا في الضلال، وأدى بعبد الرحمن بن ملجم فجوره إلى أن قتل علياً، وأدى بعمران بن حطان فجوره إلى أن مدح هذا القاتل -نسأل الله العافية- قال:
يا ضـربة من تقي ما أراد بها إلا ليبلغ من ذي العرش رضوانًا
إني لأذكـره حينـاً فأحسبــــــــــه أوفى البرية عند الله ميـــزانـــــــــًــــــــــا
أكرم بقوم بطون الطير أقبُرُهم لم يخلطـوا دينهم بغياً وعدوانا
إلى آخر أبيات رديئة قالها في مدح هذا المجرم، بارك الله فيكم.
وحصل لعبد الرزاق من أئمة الحديث أن انخدع بعبادة وزهد جعفر بن سليمان الضبعي، وأنِسَ إليه؛ فوقع في حبائل التشيع.
وانخدع أبو ذر الهروي -راوي الصحيح برواياتٍ، وكان من أعلام الحديث- انخدع بكلمة قالها الدارقطني في مدح الباقلاني؛ فجَرَّته هذه الكلمة في مدح الباقلاني إلى أن وقع في حبائل الأشاعرة، وصار داعية من دعاة الأشعرية؛ وانتشر بسببه المذهب الأشعري في المغرب العربي، فأهل المغرب يأنسون إليه، ويأتونه ويزورونه، ويبث فيهم منهج الأشعري، وهم قبله لا يعرفون إلا المنهج السلفي؛ فسن لهم سنة سيئة، نسأل الله العافية.
كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: “من دعا إلى هدىً كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص من أجورهم شيئاً ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزارهم إلى يوم القيامة لا ينقص من أوزارهم شيئاً” فنسأل الله العافية.
والبيهقي انخدع ببعض أهل الضلال، كابن فورك وأمثاله، وكان من أعلام الحديث فوقع في الأشعرية.
قد يكون هناك جاهل يثق بنفسه، ويغتر بها، وليس عنده علم يحميه؛ فهذا أولى مئات المرات بالوقوع في البدعة من هؤلاء.
وفي هذا العصر أمثلة كثيرة ممن عرفناهم كانوا على المنهج السلفي؛ ولما اختلطوا بأهل البدع ضلوا؛ لأن أهل البدع الآن لهم أساليب، ولهم نشاطات، ولهم طرق – يمكن ما كان يعرفها الشياطين في الوقت الماضي- فعرفوا الآن هذه الأساليب وهذه الطرق وكيف يخدعون الناس، فمن أساليب أهل الأهواء المعاصرين: أنك تقرأ وتأخذ الحق وتترك الباطل، كثير من الشباب لا يعرف الحق من الباطل، ولا يميز بين الحق والباطل، فيقع في الباطل يرى أنه حق، ويرفض الحق يرى أنه باطل، وتنقلب عليه الأمور، وكما قال حذيفة رضي الله عنه: “إن الضلالة كل الضلالة أن تنكر ما كنت تعرف، وتعرف ما كنت تنكر”.
فترى هذا سائراً في الميدان السلفي والمضمار السلفي ما شاء الله ما تحس إلا وقد استدار المسكين، فإذا به حرب على أهل السنة، وأصبح المنكر عنده معروفاً، والمعروف عنده منكراً، وهذه هي الضلالة كل الضلالة، فنحن نحذر الشباب السلفي من الاغترار بأهل البدع والركون إليهم”.اهـ
قلت: صدق شيخنا –سلمه الله- ووفَّى بما ذكره في هذه النصيحة الخالصة.
ومِمّن تأثر بمجالسة ومخالطة أهل البدع:
أبو الحسن الأشعري: حيث صحِب وخالط زوج أمِّه أبا علي الجبَّائي فوقع في حبائل المعتزلة أربعين عامًا، ثم تاب من الاعتزال، وانتقل إلى طور ثانٍ، وهي بدعة الأشعرية، ثم تاب منها، وانتقل إلى طور ثالث: وهي موافقته –في الجملة- لأصول السنة إلا ما بقي فيه من بقايا الكلاَّبية.أبو الوفاء بن عَقيل حيث تأثر بالمعتزلة بسبب مجالسته لشيخيه المعتزليين البغداديين: علي بن الوليد، أبي القاسم بن التّبان.
قال الذهبي في ترجمته من تاريخ الإسلام (11/203): “وقرأ عِلم الكلام عَلَى أبي علي بن الوليد، وأبي القاسم ابن التبان البغداديين صاحبَيِ القاضي أَبِي الحُسَيْن البصْريّ”.
وقال: “رأيت شيخنا وغيره من علماء السنة والأثر يحطون على ابن عقيل لما تورط فيه من تأويل الجهمية، وتحريف النصوص، نسأل الله الستر والسلامة”.
وقال في السير (19/444): “وَأَخَذَ عِلْمَ العَقْلِيَّات عَنْ شَيْخَي الاعتزَال: أَبِي عَلِيٍّ بنِ الوَلِيْدِ، وَأَبِي القَاسِمِ بنِ التَّبَّانِ صَاحِبَي أَبِي الحُسَيْنِ البَصْرِيِّ، فَانْحَرَفَ عَنِ السُّنَّةِ”.
وقال في ميزان الاعتدال (3/146): “له كتاب الفنون في أزيد من أربعمائة مجلد، إلا أنه خالف السلف، ووافق المعتزلة في عدة بدع”.
قال شيخ الإسلام رحمه الله كما في مجموع الفتاوى (6/53): “وَأَمَّا ابْنُ عَقِيلٍ فَإِذَا انْحَرَفَ وَقَعَ فِي كَلَامِهِ مَادَّةٌ قَوِيَّةٌ مُعْتَزِلِيَّةٌ فِي الصِّفَاتِ وَالْقَدَرِ وَكَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ؛ بِحَيْثُ يَكُونُ الْأَشْعَرِيُّ أَحْسَنَ قَوْلًا مِنْهُ وَأَقْرَبَ إلَى السُّنَّةِ”.
وقال في درء تعارض العقل مع النقل (8/60): “ولابن عقيل أنواع من الكلام، فإنه كان من أذكياء العالم، كثير الفكر والنظر في كلام الناس، فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية، وينكر على من يسميها صفات، ويقول: إنما هي إضافات، موافقة للمعتزلة، كما فعله في كتابه ذم التشبيه وإثبات التنزيه وغيره من كتبه، واتبعه على ذلك أبو الفرج بن الجوزي في كتابه كف التشبيه بكف التنزيه) في كتابه منهاج الوصول، وتارة يثبت الصفات الخبرية، ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات، وتارة يوجب التأويل كما فعله في الواضح وغيره، وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهي عنه، كم فعله في كتاب الانتصار لأصحاب الحديث، فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور، ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور”.
وقال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (1/322): “أصحابنا كانوا ينقمون على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد، وابن التبان شيخي المعتزلة. وكان يقرأ عليهما في السر علم الكلام، ويظهر منه في بعض الأحيان نوع انحراف عن السنة، وتأول لبعض الصفات، ولم يزل فيه بعض ذلك إلى أن مات رحمه الله”.
وقال أيضًا في (1/39): “وكذلك أنكر الشريف أَبُو جعفر على ابن عقيل تردده إلى ابن الوليد وغيره، فاختفى مدة ثم تاب وأظهر توبته”.
هذا ما تيسر من سرد الشواهد في هذه المسألة الفاصلة من مسائل المنهج، مع التخريج الأمين على نصيحة شيخنا العلامة ربيع بن هادي –نفع الله بعلمه أمَّة الإسلام-.
وصلى الله على مـحمد وآله وسلم
وكتب
أبو عبد الأعلى
خالد بن محمد بن عثمان المصري
ظهر الإثنين الرابع عشر من شهر صفر لعام 1438 ه
([1]) انظر عبقرية التأليف العربي (ص254-262).
([2]) أثر صحيح.
([3]) قال شيخنا ربيع –حفظه الله-: “كذا، والأَولى أن يقال: رضي الله عنه”.
([4]) وأخرجه ابن جرير في تفسيره (3/178)، وابن حبان في صحيحه (76)، وابن ماجه (47)، وأحمد في مسنده (6/48)، والآجري في الشريعة (ص26)، وابن بطة في الإبانة (2/602-605)، وابن مندة في التوحيد (1/275)، والبيهقي في دلائل النبوة (6/546) من طريق أيوب به، وهذا إسناد صحيح.
وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (492)، والطبراني في الأوسط (3344، 4955) من طرق أخرى عن ابن أبي مليكة به.
وفي رواية ابن بطة: قال أيوب: “ولا أعلم أحدًا من أهل الأهواء يجادل إلا بالمتشابه”.
([5]) وأخرجه أحمد (33/107/الرسالة)، وأبو داود (4319)، وصحَّحه الألباني في صحيح الجامع (6301).
([6]) أثر صحيح: وأخرجه الآجري في الشريعة (ص56)، واللاكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (221).
([7]) أثر صحيح: وأخرجه الفريابي في القدر (373)، واللاكائي في أصول الاعتقاد (242)، وابن وضاح في البدع والنهي عنها (ص 6)، والآجري في الشريعة (ص57)، وأبو نعيم في حلية الأولياء (9/218).
([8]) أثر صحيح: وأخرجه البغوي في حديث ابن الجعد (1237)، والفريابي في القدر (374)، واللاكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (291)، والآجري في الشريعة (ص57)، وأبو نُعَيْم في حلية الأولياء (3/9)، والسهمي في تاريخ جرجان (1/394).
([9]) أثر صحيح: وأخرجه الفريابي في القدر (382)، والآجري في الشريعة (ص58).
([10]) أثر صحيح: وأخرجه ابن بطة في الإبانة (637)، وعمران القصير هو ابن مسلم الْمِنقَري، ثقة من أتباع التابعين روى له الجماعة إلا ابن ماجه.
([11]) أثر صحيح: وأخرجه اللاكائي في أصول اعتقاد أهل السنة (218).
([12]) أثر صحيح: وأخرجه الآجري في الشريعة (ص56).
([13]) أثر صحيح: وأخرجه الآجري في الشريعة (ص56) عن الفريابي به، وأخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت (670،161)، واللاكائي (216) من طريق حماد به، وأخرجه الفريابي من طريق أخرى (384)، ومن طريق ثالثة: الدارمي (304).
([14]) إسناده صحيح.
والـمعنى: أي أكثر التنقل من باطل إلى باطل، أو من حقٍّ إلى باطل، أما الانتقال من الباطل إلى الحق؛ فهذا هو الـمطلوب لكن مع الثبات على هذا الحق وعدم التحول عنه مرة أخرى.
([15]) إسناده صحيح: وأخرجه سعيد بن منصور في سننه (723)، وابن جرير في تفسيره (6/158)، وأبو نعيم في الحلية (4/223)، وابن بطة في الإبانة (2/500-501).
([16]) إسناده صحيح: وأخرجه أبو نعيم في الحلية (4/82) من طريق ابن أبي عدي عن يونس به، وابن عساكر في تاريخ دمشق (61/364) من طريق ابن علية به، وزاد فيه: “أما أنت فعليك بكتاب الله، فإن الناس قد يهيموا عنه، قال يونس: بمعنى نسوه، واختاروا عليه الأحاديث: أحاديث الرجال”.
([17]) إسناده صحيح: و أخرجه ابن سعد في الطبقات (7/184) بالإسناد نفسه، وأخرجه الفريابي في القدر (371)، وأبو نعيم في الحلية (2/287)، والبيهقي في الشعب (7/60)، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” (الإيمان/2/435/363)، والفسوي في “السنة” كما في “نصوص مقتبسة منه” في المعرفة والتاريخ (3/491)، ومن طريقه اللاكائي في “شرح أصول الاعتقاد” (243)، وابن عساكر في تاريخ دمشق (28/299) من طريق سليمان به، وأخرجه ابن وضاح في “البدع والنهي عنها” (126)، وابن بطة في “الإبانة الكبرى” (369)، واللاكائي (244)، والفريابي في القدر (366)، وعنه الآجري في الشريعة (120) (1/188) من طرق أخرى عن حماد بن زيد به، وأخرجه البيهقي في الاعتقاد (ص319- ط دار الفضيلة)، وابن بطة (364)، وابن عساكر (28/305) من طريق أيوب به.
([18]) وأخرجه الخطيب في موضح أوهام الجمع والتفريق (2/82).
([19]) إسناده حسن: وأخرجه ابن أبي الدنيا أيضًا في الصمت (155)، البيهقي في شعب الإيمان (6/354)، وابن بطة في الإبانة (634).
([20]) إسناده حسن: وأخرجه ابن عدي في الكامل (2/224)، والخطيب في تاريخ بغداد (8/232).
([21]) هو صالح بن صالح بن مسلم بن حي، وثقه أحمد كما في الجرح والتعديل (4/406)، وهو والد الحسن وعلي، وكانا يريان رأي الخوارج، قال ابن عيينة: كان خيرًا من ابنيه.
([22]) هو ابن أبي سليمان، وكان يرى الإرجاء.
([23]) قال ابن الأثير في النهاية (3/31): “هم الذين يدخلون السوق بلا رأس مال، فإذا اشترى التاجر شيئًا دخل معه فيه، واحدهم صعفق، وقيل: صعفوق وصعفقي، أراد أن هؤلاء لا علم عندهم، فهم بمنزلة التجار الذين ليس لهم رأس مال”، وانظر الغريب المصنف لأبي عبيد (4/443)، ومعجم البلدان (3/407).
([24]) وأخرجه ابن عبد البر في الجامع (2/146).
([25]) وأخرجه الدوري في المعرفة والتاريخ (2/592)، ووقع فيه: “المعانقة” بدلاً من “الصعافقة”.
([26]) إسناده صحيح: وأخرجه ابن بطة في الإبانة (648)، وأبو نعيم في الحلية (3/298)، وعلّقه البخاري في الصحيح بصيغة الجزم في كتاب التفسير، باب: تفسير سورة الشورى.
([27]) إسناده صحيح.
([28]) إسناده صحيح: وأخرجه ابن بطة في الإبانة (2/436).
([29]) أخرجه عبد الرزاق في مصنَّفه (4/307)، وابن أبي الدنيا في “الإخوان” (38)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (376)، (499-503) من طرق عن أبي إسحاق عن هُبَيرة بن يَريم الكوفي عن ابن مسعود به، وهذا إسناد حسن، هبيرة، قال أبو بكر الأثرم عن أحمد بن حنبل: لا بأس بحديثه، هو أحسن استقامة من غيره، يعني الذين روى عنهم أبو إسحاق وتفرد بالرواية عنهم، قال الحافظ في التقريب: لا بأس به، وقد عيب بالتشيع.
([30]) أخرجه ابن أبي شيبة (6/121)، وابن بطة في الإبانة الكبرى (2/437) (368)، (2/439) (377)، (2/464) (459) عن أيوب عن أبي قلابة عن أبي الدرداء به.
وهذا البيت من الشعر هو من أحكم وأوجز ما قاله: عدي بن زيد، كما أخرج هذا أبو القاسم الحسين بن محمد الحنَّائي في “الحنائيات” (2/1146) (224) من طريق أبي بكر بن دُرَيد، عن أبي عثمان سعيد بن هارون، عن العتبي قال: دخل الشعبي على عبد الملك فقال: يا شعبي أنشدني أحكم ما قالت العرب وأوجز، فقال يا أمير المؤمنين قول امرؤ القيس …ثم ذكر قول زهير، ثم قول النابغة، ثم قول عدي بن زيد ..إلخ.
([31]) أخرجه أبو نعيم في حلية الأولياء (8/103)، وابن بطة في الإبانة (2/459) (437).
([32]) قال الشيخ ربيع: “نقلت هذا النص من مقال لي سابق عنوانه: (الموقف الصحيح من أهل البدع)”.