إفادة الصحبة بأن لبس الغترة في مصر ليس من لباس الشهرة
إفادة الصحبة بأن لبس الغترة في مصر
ليس من لباس الشهرة
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه،
أما بعد، فإنه قد ذهب أحد الأفاضل إلى أن لبس الغترة في مصر يدخل في حدِّ لباس الشهرة الذي نهى عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومن أجل أن نصل إلى حكم منصفٍ في هذه المسألة دون تحيُّز أو تعصُّب لأحد، فسوف أعرض الأدلة في هذا الباب مع ذكر فهم العلماء السابقين والمعاصرين لها.
· أولاً: الأدلة الواردة في هذا الباب:
أخرج أبو داو في سننه (4029) قال: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ، ح وحَدَّثَنَا مُحَمَّدٌ يَعْنِي ابْنَ عِيسَى، عَنْ شَرِيكٍ، عَنْ عُثْمَانَ بْنِ أَبِي زُرْعَةَ، عَنِ الْمُهَاجِرِ الشَّامِيِّ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، – قَالَ فِي حَدِيثِ شَرِيكٍ: يَرْفَعُهُ – قَالَ: «مَنْ لَبِسَ ثَوْبَ شُهْرَةٍ أَلْبَسَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبًا مِثْلَهُ»، وفي رواية النسائي في “الكبرى” (5/460/ 9560): “ثوب مذلَّة في الآخرة”.
زَادَ عَنْ أَبِي عَوَانَةَ «ثُمَّ تُلَهَّبُ فِيهِ النَّارُ»، وحسَّنه العلامة الألباني –رحمه الله-.
وأما حديث: “نهى عن الشهرتين: رقة الثياب وغلظها، ولينها وخشونتها، وطولها وقصرها، ولكن سداد فيما بين ذلك واقتصار”، فهذا حديث موضوع كما في الضعيفة (2326).
· ثانيًا: معنى الشهرة وحدُّ لباس الشهرة:
قال ابن الأثير كما في “النهاية” (2/1255): “الشُهْرة: ظُهور الشَّيء في شُنْعة حتى يَشْهَره الناس”.
قلت: والمعروف من كلام أهل العلم أن المعتبر في لباس الشهرة هو قصد الاشتهار، مع كون الثوب مما يخالف عادات الناس وأعرافهم سواء كان وضيعًا أم كان نفيسًا.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- في بيان حدِّ لباس الشهرة كما في “الفتاوى” (22/138): “وَتُكْرَهُ الشُّهْرَةُ مِنْ الثِّيَابِ، وَهُوَ الْمُتَرَفِّعُ الْخَارِجُ عَنْ الْعَادَةِ وَالْمُتَخَفِّضُ الْخَارِجُ عَنْ الْعَادَةِ؛ فَإِنَّ السَّلَفَ كَانُوا يَكْرَهُونَ الشهرتين الْمُتَرَفِّعَ وَالْمُتَخَفِّضَ… وَخِيَارُ الْأُمُورِ أَوْسَاطُهَا. وَالْفِعْلُ الْوَاحِدُ فِي الظَّاهِرِ يُثَابُ الْإِنْسَانُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ وَيُعَاقَبُ عَلَى فِعْلِهِ مَعَ النِّيَّةِ الْفَاسِدَةِ”.
وقال موسى بن أحمد الحجاوي الدمشقي الحنبلي في كتابه “الآداب الشرعية” (ص431): “في (الغُنية): من اللباس المنزه عنه: كلبسة يكون بها مشتهرًا بين الناس؛ كالخروج من عادة أهل بلده وعشيرته، فينبغي أن يلبس ما يلبسون، لئلاَّ يشار إليه بالأصابع، ويكون ذلك سببا إلى حملهم على غيبتهم له، فيشركهم في إثم الغيبة له، انتهى.
ويدخل في الشهرة وخلاف المعتاد: من لبس شيئًا مقلوبًا أو محوَّلاً؛ كما يفعله بعض الأخفاء والسخفاء، والانخلاع والسخف: رقة العقل، قاله الجوهري.
قال في (الرعاية الكبرى): يكره في غير حرب إسبال بعض لباسه فخرًا وخيلاء وبطرًا وشهرة، وخلاف زي بلده بلا عذر، وقيل: يحرمُ ذلك، وهو أظهر.
وقيل: ثوب الشهرة: ما خالف زي بلده، وأزرى به، ونقص مروءته، انتهى.
والقول بتحريم ذلك خيلاء هو ظاهر قول أحمد، وهو المذهب قطع به غير واحد، ونصّ أحمد أنه لا يحرم ثوب الشهرة.
ورأى على رجل بردا مخططاً بياضاً وسواد، فقال: ضع عنك هذا، وألبس لباس أهل بلدك، وقال: ليس هذا بحرام، ولو كنت بمكة أو المدينة لم أعب عليك.
قال الناظم: لأنه لباسهم هناك.
قال في (التلخيص): وابن تميم يكره ثوب الشهرة، وهو ما خالف ثياب بلده…
وكان بكر بن عبد الله المزني يقول: البسوا ثياب الملوك، وأميتوا قلوبكم بالخشية.
وكان الحسن يقول: أن قومًا ما جعلوا خشوعهم في لباسهم، وكبرهم في صدورهم، وشهروا أنفسهم بلباس الصوف، حتى إن أحدهم بما يلبس من الصوف أعظم كبرًا من صاحب المُطْرف بمُطرفه”.
وقال الشوكاني في “نيل الأوطار” (2/131): “وَالْمُرَادُ أَنَّ ثَوْبَهُ يَشْتَهِرُ بَيْنَ النَّاسِ لِمُخَالَفَةِ لَوْنِهِ لِأَلْوَانِ ثِيَابِهِمْ فَيَرْفَعُ النَّاسُ إلَيْهِ أَبْصَارَهُمْ وَيَخْتَالُ عَلَيْهِمْ وَالتَّكَبُّرُ.
قَوْلُهُ: (أَلْبَسَهُ اللَّهُ تَعَالَى ثَوْبَ مَذَلَّةٍ) لَفْظُ أَبِي دَاوُد: “ثَوْبًا مِثْلَهُ”، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ “ثَوْبَ مَذَلَّةٍ ” ثَوْبٌ يُوجِبُ ذِلَّتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَمَا لَبِسَ فِي الدُّنْيَا ثَوْبًا يَتَعَزَّزُ بِهِ عَلَى النَّاسِ وَيَتَرَفَّعُ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ “مِثْلَهُ” فِي تِلْكَ الرِّوَايَةِ أَنَّهُ مِثْلُهُ فِي شُهْرَتِهِ بَيْنَ النَّاسِ. قَالَ ابْنُ رَسْلَانَ: لِأَنَّهُ لَبِسَ الشُّهْرَةَ فِي الدُّنْيَا لِيَعِزَّ بِهِ وَيَفْتَخِرَ عَلَى غَيْرِهِ، وَيُلْبِسُهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثَوْبًا يَشْتَهِرُ بِمَذَلَّتِهِ وَاحْتِقَارِهِ بَيْنَهُمْ عُقُوبَةً لَهُ، وَالْعُقُوبَةُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ انْتَهَى.
… وَالْحَدِيثُ يَدُلُّ عَلَى تَحْرِيمِ لُبْسِ ثَوْبِ الشُّهْرَةِ، وَلَيْسَ هَذَا الْحَدِيثُ مُخْتَصًّا بِنَفِيسِ الثِّيَابِ، بَلْ قَدْ يَحْصُلُ ذَلِكَ لِمَنْ يَلْبَسُ ثَوْبًا يُخَالِفُ مَلْبُوسَ النَّاسِ مِنْ الْفُقَرَاءِ، لِيَرَاهُ النَّاسُ فَيَتَعَجَّبُوا مِنْ لُبْسِهِ وَيَعْتَقِدُوهُ، قَالَهُ ابْنُ رَسْلَانَ.
وَإِذَا كَانَ اللُّبْسُ لِقَصْدِ الِاشْتِهَارِ فِي النَّاسِ فَلَا فَرْقَ بَيْنَ رَفِيعِ الثِّيَابِ وَوَضِيعِهَا وَالْمُوَافِقِ لِمَلْبُوسِ النَّاسِ وَالْمُخَالِفِ؛ لِأَنَّ التَّحْرِيمَ يَدُورُ مَعَ الِاشْتِهَارِ، وَالْمُعْتَبَرُ الْقَصْدُ وَإِنْ لَمْ يُطَابِقْ الْوَاقِعَ”.
وقال أيضًا: “وذكر الشَّيْخُ أَبُو إِسْحَاقَ الْأَصْفَهَانِيُّ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ أَيُّوبَ قَالَ: دَخَلَ الصَّلْتُ بْنُ رَاشِدٍ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَعَلَيْهِ جُبَّةُ صُوفٍ وَإِزَارُ صُوفٍ وَعِمَامَةُ صُوفٍ فَاشْمَأَزَّ عَنْهُ مُحَمَّدٌ، وَقَالَ: أَظُنُّ أَنَّ أَقْوَامًا يَلْبَسُونَ الصُّوفَ، وَيَقُولُونَ قَدْ لَبِسَهُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَقَدْ حَدَّثَنِي مَنْ لَا أَتَّهِمُ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَدْ لَبِسَ الْكَتَّانَ وَالصُّوفَ وَالْقُطْنَ، وَسُنَّةُ نَبِيِّنَا أَحَقُّ أَنْ تُتَّبَعَ.
وَمَقْصُودُ ابْنِ سِيرِينَ مِنْ هَذَا أَنَّ قَوْمًا يَرَوْنَ أَنَّ لُبْسَ الصُّوفِ دَائِمًا أَفْضَلُ مِنْ غَيْرِهِ فَيَتَحَرَّوْنَهُ وَيَمْنَعُونَ أَنْفُسَهُمْ مِنْ غَيْرِهِ، وَكَذَلِكَ يَتَحَرَّوْنَ زِيًّا وَاحِدًا مِنْ الْمَلَابِسِ وَيَتَحَرَّوْنَ رُسُومًا وَأَوْضَاعًا وَهَيْئَاتٍ يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَنْهَا مُنْكَرًا، وَلَيْسَ الْمُنْكَرُ إلَّا التَّقَيُّدَ بِهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَنْهَا.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْأَعْمَالَ بِالنِّيَّاتِ فَلُبْسُ الْمُنْخَفِضِ مِنْ الثِّيَابِ تَوَاضُعًا وَكَسْرًا لِسَوْرَةِ النَّفْسِ الَّتِي لَا يُؤْمَنُ عَلَيْهَا مِنْ التَّكَبُّرِ إنْ لَبِسَتْ غَالِي الثِّيَابِ مِنْ الْمَقَاصِدِ الصَّالِحَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْمَثُوبَةِ مِنْ اللَّهِ، وَلُبْسُ الْغَالِي مِنْ الثِّيَابِ عِنْدَ الْأَمْنِ عَلَى النَّفْسِ مِنْ التَّسَامِي الْمَشُوبِ بِنَوْعٍ مِنْ التَّكَبُّرِ لِقَصْدِ التَّوَصُّلِ بِذَلِكَ إلَى تَمَامِ الْمَطَالِبِ الدِّينِيَّةِ مِنْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ عِنْدَ مِنْ لَا يَلْتَفِتُ إلَّا إلَى ذَوِي الْهَيْئَاتِ كَمَا هُوَ الْغَالِبُ عَلَى عَوَامِّ زَمَانِنَا وَبَعْضِ خَوَاصِّهِ لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنْ الْمُوجِبَاتِ لِلْأَجْرِ لَكِنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَقْيِيدِ ذَلِكَ بِمَا يَحِلُّ لُبْسُهُ شَرْعًا”.
وقال الحافظ الذهبي في كتابه “بيان الإلباس في فنون اللباس” (ص59): “فأما قول طائفة من الشافعية: إن الفقيه لو لبس خلاف عادة جنسه اقتضى ذلك القدح في عدالته، فهذا محمول على لابس هذا تلاعبًا واستهتارًا، أما من فعله عادة فيباح، وإن اقتصد في ذلك تدينًا وتسنُّنًا فهو محمود، اللهم إلا أن يريد بذلك الشهرة، أو ليُظن به الخير فإنه مذموم، ويُعرض الله عنه.
ونقل الخطابي عن المزني أنه كان يلبس فوقانًا الكم الواحد كبير والآخر ضيق؛ وقال: الواسع لي به حاجة لحمل حوائجي والآخر لا أحتاجه.
وورد مثل هذا عن أبي داود صاحب ((السنن))، فأما من فعل هذا اليوم فإنه لباس شهرة فلأن تسلم فيه النية فليحذر، والضابط في ذلك هو ترك التكلف وحب الخمول”.
قلت: ومن يتدبر في النقولات السابقة يجد أن مسألة لباس الشهرة مدارها على نية اللابس ابتداء من عدة جهات:
1. من جهة قصد الشهرة من عدمه.
2. ومن جهة حب الظهور والتميز بهذا اللباس على سائر الناس.
3. ومن جهة أن تلزم مجموعة زِيًّا وَاحِدًا مِنْ الْمَلَابِسِ وَيَتَحَرَّوْنَ رُسُومًا وَأَوْضَاعًا وَهَيْئَاتٍ يَرَوْنَ الْخُرُوجَ عَنْهَا مُنْكَرًا، وَلَيْسَ الْمُنْكَرُ إلَّا التَّقَيُّدَ بِهَا وَالْمُحَافَظَةُ عَلَيْهَا وَتَرْكُ الْخُرُوجِ عَنْهَا.
وجاء عن العلامة عبدالمحسن العبَّاد أنه سئل في شرحه على سنن أبي داود:
ما حكم من يلبس لبسًا على السنة لكنه غير مشتهر، مثلاً: يلبس عمامة، والآن المشتهر عند الناس الغترة أو (الشماغ)، أو يقصر ثوبه إلى نصف الساقين، وهذا غير معروف في مجتمعه؟!
الجواب: الشيء الذي ورد في السنة لا يقال: إنه لباس شهرة.
قلت: والسؤال: هل يعد لبس الغترة –أو الشماغ- في مصر غريبًا وخارجًا عن عادة أهل مصر وعُرفها.
وهل لبسها يعتبر ترفعًا أو تخفُّضًا؟!
والإجابة: أن الغترة بصورتها الحالية، إنما عُرِفَت في نجد والحجاز في الدولة السعودية.
وكانت كذلك معروفة في صعيد مصر لكن مع اختلاف يسير الشكل واللّون، فما زال الصَّعايدة في مصر يتلَفعون بما يسمَّى بـ “الشال”، الذي هو صنو الغترة.
بل من قديم وأهل الصعيد –خاصة كبار السن- يلبسون الغترة البيضاء الناصعة التي ليس فيها نقش.
وهذه الغترة لا تختلف كثيرًا عن الخمار الذي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتقنع به.
وكذلك كان –وما زال- الوجهاء وأهل الفضل في صعيد مصر يلبسون ما يسمَّى بـ “العباية” التي هي قرينة ما يسمَّى عند أهل نجد والحجاز بـ “البِشْت”.
لكن مما قد يقال إنه من لباس شهرة في مصر ما اختُّصت به بعض الشعوب الإسلامية، وليس معروفًا عند أهل مصر وما حولها، نحو:
1. الثوب الباكستاني القصير الذي يمس –بالكاد- الركبتين، وقد يغطيهما، وتحته سراويل إلى الكعبين، وقد يتجاوزا الكعبين عند البعض.
2. الثوب المغربي وهو البرنس الذي له غطاء رأس متصل بالثوب، يسمَّى عند أهل المغرب بالـ “قُب”، وهذا الثوب له نوعان: نوع ذات كم طويل، والثاني: المراكشي ذات نصف كم، وفضفاض؛ ويلبس في دول المغرب العربي: المغرب، وتونس، والجزائر؛ ويلبس كذلك في بعض مناطق ليبيا، خاصة عند البربر الأمازيغ.
وينتبه كذلك إلى أمر هام في المسألة، ألا وهو: إنه إذا انتشر لباس من ثياب الكفَّار بين المسلمين، وأبى المسلم أن يلبسه تمسكًا منه بالأصل الذي كان عليه آباؤه وأجداده من المسلمين، فلا يقال إن لبسه لثياب المسلمين مخالفة للعادات التي أحدثها قومه من تشبه بالكفَّار.
وكذلك إذا سافر المسلم إلى بلاد الكفر، فإنه يتمسك بهيئة المسلمين في لباسهم، ولا ينماع مع الكفار في هيئتهم.
وسئل الشيخ الألباني -رحمه الله- كما في “سلسلة الهدى والنور” (شريط 754):
“السائل: ما المقصود بلباس الشهرة أو ثوب الشهرة الذي ورد التحذير منه في الحديث في واقعنا المعاصر؟
الشيخ: “واقعنا المعاصر أي كل بلد له نمطه من اللباس وهيئته فإذا لبس رجل ما لباسًا في ذاك البلد ليس معهودًا ولا معروفًا فيه، ويبتغي هو الشهرة فهو لباس شهرة أما إذا طرأ البلد الذي لا يلبس هذا اللباس ومعنى الشهرة في ذهنه غير وارد إطلاقا فهذا ليس لباس شهرة يعني لباس الشهرة قبل كل شيء يتعلق بالنية ثم يلاحظ في ذلك عادة البلد، لكن هنا شيء هنا لابد من التنبيه والتحذير منه قد يبرر بعض الناس بمن لا علم عندهم أن يقعوا في مخالفة للشرع مخالفة صريحة فرارا من مخالفة أو من الوقوع في مخالفة متوهمة فمثلا كثير من المسلمين يسافرون إلى بلاد الغرب فبلاد الغرب هذا اللباس الذي أنتم الآن تلبسونه غير معروف في تلك البلاد فيوحي إليه الشيطان أنه ينبغي أن تتزين بزي أهل تلك البلاد؛ لأنه سيشار إليك بالبنان نحن نقول هذا من وحي الشيطان؛ لأن على المسلم أن يحافظ على زيّه وعلى لباس أمته بحيث لو رُفع بالهيليكوبتير ووضع بين الكفار قيل له هذا مسلم لأنه يلبس لباس المسلمين فلا يجوز للمسلم فرارًا مما يتوهم أنه إذا استمر على لباسه الإسلامي أنه لباس شهرة فينماع بأن يلبس لباس الكفار حينما يبتلى بالسفر إلى تلك البلاد”.
وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة (24/45): السؤال الرابع من الفتوى رقم ( 2124 ):
س4 : ما هي مكانة الغترة في السنة ، هل هي ضرورية ؟
ج4 : الغترة من أنواع لباس الرأس عند بعض الناس، وهي من أمور العادات لا العبادات، وليست بضرورية في الدين، ولا بسنة، فمن شاء لبسها، ومن شاء لبس غيرها من عمامة ونحوها، ومن شاء جمع بينهما، كل ذلك وأمثاله لا حرج فيه، إلا أنه لا يتشبه في لباسه بالنساء ولا بالكفار فيما يخصهم، ولا يغرب في لباسه، فإنه قد يلفت الأنظار، ويكون سببًا في القيل والقال، والسخرية والاستهزاء.
وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
عضو … عضو … نائب الرئيس … الرئيس
عبد الله بن قعود … عبد الله بن غديان … عبد الرزاق عفيفي … عبد العزيز بن عبد الله بن باز
قلت: وكذلك ينتبه أن ثياب العرب جميعًا على وجه الخصوص لها سمات خاصة مشتركة في البيئة العربية عامة سواء في مصر أو الجزيرة العربية أو الشام، كما قال الإمام مالك: “العمائم والانتعال من عمل العرب الماضين، ولا تكاد تعمله الأعاجم”.
وقال ابن سعد في “الطبقات الكبرى” (الجزء المتمم لتابعي أهل المدينة) (ص321): أَخْبَرَنَا مطرَّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَسَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يقول: “كنا نعد حَلْقَةِ رَبِيعَةَ ثَلَاثِينَ رَجُلًا مُعْتَمّاً سِوَى مَنْ لَيْسَ بِمُعْتَمٍّ، وَكَانَ رَبِيعَةُ يَلْبَسُ الْعَمَائِمَ”.
وأخرجه محمد بن خلف الملقب بـ “وكيع” في أخبار القضاة (ص202) قال: حَدَّثَنِي أَبُو إسماعيل مُحَمَّد بْن إسماعيل بْن يوسف السلمي؛ قال: حَدَّثَنَا عَبْدُ العزيز بْن عَبْد اللهِ الأويسي؛ قال: قَالَ: مالك بْن أنس: لا ينبغي أن تترك العمائم؛ لقد اعتممت وما في وجهي شعرة، ولقد رأيت في مجلس ربيعة بْن عَبْد الرحمن بضعة وثلاثين رجلاً معتماً؛ قَالَ: مالك: ولقد أَخْبَرَنِي عَبْد العزيز بْن المطلب: أنه دخل المسجد ذات يوم بغير عمامة فسبني أبي سبابًا قبيحاً؛ وقال: أتدخل المسجد متحسراً ليس عليك عمامة”.
وقال ابن سعد في (ص328): أَخْبَرَنَا مطرَّف بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْيَسَارِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: “كَانَ النَّاسُ يَلْبَسُونَ الْعَمَائِمَ، مِنْهُمْ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ بْنِ هُرْمُز”.
وقال القاضي عياض في “ترتيب المدارك وتقريب المسالك” (3/328): ” قال: كان يحيى بن يحيى، أشدَّ الناس تعظيماً لمحمد بن بشير، وأحسنهم ثناء عليه. في حياته، وبعد وفاته. ولقد سئل عن لباس العمائم فقال: هي لباس الناس بالمشرق، وعليه كان أمرهم في القديم. فقيل له لو لبستها، لتبعك الناس. فقال قد لبس محمد بن بشير الخزّ، فلم يتبع فيه”.
وسألت فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن محيي الدين –أستاذ الحديث ورئيس قسم السنة بالجامعة الإسلامية–حفظه الله تعالى-: ما رأيكم فيمن يقول إن الغترة أو الشماغ يعد ثوب شهرة في مصر؟
فأجاب –حفظه الله-: “أولاً نحمد الله تبارك وتعالى، وثانيًا: نحمده سبحانه أن منّ علينا بلباس التقوى… وهذا اللباس وهو الغترة وكذلك العمّة لباس العلماء الفضلاء، فإذا كان لباس خيار الناس، واقتدى به العبد في ذلك، فهذا لا حرج فيه.. وخيار الناس في مصر –لا يوجد أفضل من السلفيين الملتزمين بالمنهج السلفي الصحيح في مصر- هم أخذوا هذا اللباس من هذه البلاد المباركة… وعلماء الحرمين هذا لباسهم الشرعي والتشبه بهم جائز بل من فضائل الأعمال.
قلت: هناك من أهل مصر أنفسهم من العوام – في بعض المناطق نحو الصعيد ما زالوا يلبسون نحو هذه الغترة.
فعقَّب –حفظه الله- قائلاً: إذن لا يسمّى لباس شهرة.. لكن لباس الشهرة أن يلبسه واحد فقط –أي يتميز به-، خاصة إذا كان له لون مميز نحو الأخضر أو الأصفر أو الأحمر، وقد يكون شعارًا لأهل البدع، نحو الذين يلبسون عمامة خضراء في السعودية –يتخذونها شعارًا-، فهذا لباس بدعة ولباس شهرة.
وقال أيضًا في موطن آخر متسائلاً: مَن خيار الناس في العالم؟
قلت: السلفيون.. هم الفرقة الناجية والطائفة المنصورة.
قال –حفظه الله-: العلماء من أهل مكة لا يلبسون إلا الثوب والمشلح…
قلت: فإذا تشبه بهم أهل العلم في البلاد الأخرى فهذا مما يُحمَدون به لا يقال: إنهم لبسوا لباس شهرة.
قال -حفظه الله-: هذا الصحيح..
قلت: كذلك الوجه الآخر: ما ثبت أنه صلى الله عليه وسلم لبس الخمار، وهناك من العلماء مَن حمل الخمار هنا على العمامة، أي: أنه يتعمَّم، لكن هل يقال إن الغترة –أو الشماغ- ينطبق عليه حدُّ الخمار، يعني هل يعد خمارًا؟
فقال –حفظه الله-: نعم.. لا بأس
قلت: وإن اختلفت الهيئة قليلاً أو اللون لا يضر هذا.
ثم استطردت قائلاً: وكذلك ما زال أهل الصعيد والفلاّحون ما زالوا يغطون رءوسهم بنحو هذا.. فهذا معروف بين أهل البلد، لكن المتفرنجين –الذين شابهوا الإفرنج- هم الذين لا يلبسون هذا.
فقال –سلمه الله-: مثل النساء عندكم كن يلبس العباءة والنقاب.. أخبرني فلان كان النساء عندنا يلبسن كما تلبس نساءكم، والآن جاءت الإفرنجية.
قلت: لما جاءت ثورة التاسع عشر وهدى شعراوي.. المصريون قبل دخول الإنجليز إلى مصر كان لباسهم القميص ويغطون رءوسهم بالقلنسوة أو العمامة ونحو ذلك.
فقال –حفظه الله-: والصعايدة كانوا يلبسون القلنسوة الصوف الطويلة.
قلت: ما كان يوجد أحد من الرجال يسير في الطرقات حاسر الرأس.. كان هذا يعد عيبًا، فيقال: إن الأصل تغطية الرأس.
قال: هذا الصحيح.. والرسول كان يلبس القلنسوة، والألباني يقول: لا يصلي حاسر الرأس.
قلت: لكن البحث الآن في خارج الصلاة.. هل يغطي رأسه بأي وسيلة ولا يقال: إنه لباس شهرة؛ لأن الأصل تغطية الرأس.
.هذا هو الصحيح؛ لأن كشف الرأس جاء من الإنجليز، فكشف الرأس عيب كبير، وتغطيتها من العادات المستحسنة.. يعني لو رفعت العمامة من على رأسه قد يقتلك؛ لأنه يعده عيبًا كبيرًا أن يكشف رأسه، يعني لو رفعت الغترة من على رأسي أشعر كأني أمشى عريانًا، فهذه من عادات العرب الجمليةقال:
قلت: وزادها الإسلام قوة وشدة.. اهـ.
· وسألت الشيخ الوالد حسن بن عبدالوهَّاب البنا –حفظه الله- السؤال نفسه؟
فأجاب بما مفاده: “ليست من لباس شهرة، النبي صلى الله عليه وسلم لبس العمامة والخمار، والسراويلات، والإزار والرداء، وكلها من ملابس العرب، وهذه الغترة هي من لباس المسلمين العرب في منطقة الخليج، ونحن نتشبه بهم، والأصل هو تغطية الرأس بأي وسيلة، ما لم تكن مخالفة أو فيها تشبه بالكفَّار، كما قال الشيخ ناصر –رحمه الله-“.
قلت: ودار أيضًا بيني وبين فضيلة الشيخ عبدالمحسن المنيف –أستاذ الفرائض والفقه في كلية الشريعة حاليًا -وعميد أكاديمية البحث العلمي سابقًا- بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية- نقاش علمي حول هذه المسألة هذا مفاده –وهو مسجل-:
بعد أن عرضت عليه هذه المسألة، قال حفظه الله: هل الذي يلبس الغترة واحد فقط أم يلبسها جماعة من الناس؟ فإذا كان يلبسها مجموعة فليست لباس شهرة.
وقلت: وإذا كان يلبسها أهل العلم وصارت سمتًا لهم، وتشبه بهم غيرهم، فهذا أبعد من أن يقال عنه إنه لباس شهرة… والأصل هو أن يغطي الرجل رأسه.
ثم قلت: ومعلوم أن الدولة السعودية صارت معقلاً للعلم والعلماء، بخلاف البلاد الأخرى، فالتشبه بعلمائها وأهلها تشبه بالمسلمين.
ثم استطردت قائلاً: لو تذكرون حفظكم الله لنا حدًّا للباس الشهرة.
فقال: ما عدّه الناس شهرة، وما عدَّه أهل العلم لباس شهرة.
قلت: وهذا يختلف على حسب الأعراف؛ يعني قد يكون لباسًا شرعيًّا ويستغربه الناس.
قال الشيخ: إذا استغرب الناس أمرًا شرعيًّا لا يعتبر لباس شهرة.
قلت: خاصة إذا اعتادوا على الملابس الإفرنجية.
قال حفظه الله: نعم.اهـ
قلت: ونستفيد من هذه المناقشات مع العلماء الثلاث الأفاضل ما يلي:
أولاً: أن تشبه العالم أو طالب العلم في مصر أو غيرها بلباس علماء السنة في بلاد الحرمين –معقل العلم والعلماء والسلفية- لا يعد مذمومًا، ولا يقال في حقِّ فاعله: إنه لبس لباس شهرة.
قال الشيخ عبدالرحمن محيي الدين: الغترة والقميص والبشت لباس العلماء الفضلاء.
قال الرامهرمزي في “المحدث الفاصل” (ص201/عجاج الخطيب) (ص180/رقم 78/تحقيق البيضاني): حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا، ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْمِصْرِيُّ، ثَنَا مُطَرِّفٌ، قَالَ: سَمِعْتُ مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ يَقُولُ: قُلْتُ لِأُمِّي: أَذْهَبُ فَأَكْتُبُ الْعِلْمَ، فَقَالَتْ لِي أُمِّي: تَعَالَ فَالْبَسْ ثِيَابَ الْعُلَمَاءِ، ثُمَّ اذْهَبْ فَاكْتُبْ قَالَ: فَأَخَذَتْنِي فَأَلْبَسَتْنِي ثِيَابًا مُشَمَّرَةً، وَوَضَعَتِ الطَّوِيلَةَ عَلَى رَأْسِي وَعَمَّمَتْنِي فَوْقَهَا، ثُمَّ قَالَتِ: اذْهَبِ الْآنَ فَاكْتُبْ”.
وأخرجه من طريقه كلٌّ من: الخطيب البغدادي في “الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع” (1/384)، والقاضي عياض في “الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السَّماع” (ص46/تحقيق سيد صقر) (ص122/رقم 33/تحقيق البيضاني).
لكن إسناده ضعيف جدًّا، مُوسَى بْنُ زَكَرِيَّا، قال فيه الدارقطني: متروك. وقال الخليلي: حافظ لكنه ضعيف، متكلم فيه واتهمه أبو يحيى الساجي بالوضع. وقال ابن حزم: مجهول.
لكن يغني عنه ما قاله السفاريني في “غذاء الألباب شرح منظومة الآداب” (2/234): “سُئِلَ الْحَافِظُ جَلَالُ الدِّينِ السُّيُوطِيّ عَنْ طَالِبِ عِلْمٍ تَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَهُوَ فِي الْأَصْلِ مِنْ قُرَى الْبَرِّ، ثُمَّ لَمَّا رَجَعَ إلَى بِلَادِهِ وَعَشِيرَتِهِ تَزَيَّا بِزِيِّهِمْ وَتَرَكَ زِيَّ أَهْلِ الْعِلْمِ هَلْ يُعْتَرَضُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَجَابَ بِمَا مَعْنَاهُ لَمَّا اتَّصَفَ بِالصِّفَتَيْنِ لَا اعْتِرَاضَ عَلَيْهِ فِي أَيِّ الزِّيَّيْنِ تَزَيَّا؛ لِأَنَّهُ إنْ تَزَيَّا بِزِيِّ الْعُلَمَاءِ فَهُوَ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَزَيَّا بِزِيِّ أَهْلِ بَلَدِهِ وَعَشِيرَتِهِ فَلَا حَرَجَ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالْأَصْلِ وَلِأَنَّهُ بَيْنَ أَظْهُرِ عَشِيرَتِهِ وَقَوْمِهِ.
وَهَذَا وَاضِحٌ.. وَلَعَلَّ كَلَامَ عُلَمَائِنَا لَا يُخَالِفُهُ.
وَمُرَادُهُمْ فِي قَوْلِهِمْ: وَيُكْرَهُ خِلَافُ زِيِّ بَلَدِهِ يَعْنِي بِلَا حَاجَةٍ تَدْعُو إلَى خِلَافِهِمْ، فَإِنَّ مَنْ صَارَ مِنْ الْعُلَمَاءِ تَزَيَّا بِزِيِّهِمْ فِي أَيِّ مِصْرٍ كَانَ أَوْ بَلْدَةٍ كَانَتْ غَالِبًا، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ”.
قلت: وهذه المسألة مِمَّا قد تختلف فيه أنظار العلماء، فلا ينبغي أن يشنَّع فيه على المخالف، بل تظل المسألة في إطار البحث العلمي المتجرد مع احترام كلِّ طرف للآخر.
وصلَّى الله على محمَّد وعلى آله وأصحابه وسلّم
وكتب
أبو عبدالأعلى خالد بن محمد بن عثمان المصري
عصر الأحد الثاني من شهر رمضان 1438 ه
القاهرة / مصر